تختصر قاعدة حميميم هيكلية الحكم في سورية، رئيسا ومرؤوسا، وتوضح، من خلال خبر مقتضب، أنها صادرت كل السلطات المدنية، إضافة إلى السلطة العسكرية. وهي إذ تعلن عن سلطتها القضائية، والتنفيذية، من نافذتها الإعلامية في سورية، فإنها تبعث رسائل داخلية وخارجية، وهي عبر تأكيدها حقها في تطبيق القانون، عند تقصير الجهات المعنية بذلك، في ختام تحذيرها النظام من التقصير في معاقبة “الشبّيح” طلال دقاق الذي تعمد إطعام أسوده المتوحشة حصاناً أصيلاً، تحت عين الكاميرا وتهليلاته، في متابعة لما هو حاله من إجرام بحق السوريين، بترخيص رسمي من الأجهزة الأمنية، وإطعام لحومهم الحية لأسده المتوحش، فإنها تزيح عن كاهلها عبء الصمت عن جرائم صغيرة، للتلويح بأن ملف الجرائم الأكبر ملا يزال في أدراجها على قيد انتظار صراخها، عندما يحين أوانه.
لا تختلف الصورة المهينة لجنود النظام “المنبطحين أرضاً” تحت أقدام الشرطة الروسية التي اعتقلتهم بالجرم المشهود، خلال نهبهم بيوت السوريين بعد تدميرها فوق رؤوسهم، عن خبر تحذير روسيا نظام الأسد من التقصير في معاقبة الدقاق، والإعلان عن فتح القاعدة تحقيقا في الأمر، أي أنها انتزعت صفة القاضي الأول عن رئيس النظام، لتمنحها لقائد قاعدة حميميم، القاضي الأول والقائد الأعلى للقوات العسكرية والشرطية، وما بينهما من مؤسسات الدولة السورية، في رسالةٍ مضمونها محلي، ومترجم مباشرة إلى اللغة الفارسية، ليدرك معناها وأبعادها “قاسم سليماني وقواته” التي ينفي النظام السوري وجودها على الأرض السورية، بينما يتمسكون بسيادة قرارهم بعدم القبول بأي املاءاتٍ خارجيةٍ، لإنهاء الوجود الإيراني من سورية، في “شيزوفيرنيا” تصريحات متضاربة للمسؤولين السوريين من أعلى الهرم حتى نائب وزير خارجيته، تفيد تناقضاتها بحقيقة التخبط القراراتي في سورية.
من المفيد أن توجد قوة ردع روسية للجرائم الصغيرة، التي ترتكب في ظل فوضى الصلاحيات الأمنية، وانتشار المليشيات “التشبيحية” التي أصبحت سلطاتها توازي سلطات الأجهزة الأمنية التي أسستها في مناطق.
وفي أخرى تفوقها وتتجاوزها في إعلان عن إقامة إمارات فوق السلطة، ما يشرعن حالة الهلع التي يعيشها السوريون، ولجوءهم إلى طلب الحماية من عناصر الشرطة الروسية لحماية أنفسهم وممتلكاتهم، على الرغم من معرفتهم أن روسيا هي الشريك الأساسي في عملية التدمير الممنهجة لسورية ما بعد 2015، إثر دخولها الرسمي إلى الأجواء السورية، وانتزاع المدن من فصائل المعارضة واحدة تلو الأخرى، وتغيير مسار التفاوض الأممي في جنيف، المبني على أساس بيان جنيف 1، والقرارات الأممية ذات الصلة، إلى مسار المصالحات والتسويات في أستانة، تحت شعار تسليم سلاح الفصائل في مقابل حصول قادتها على ميزات المشاركة بقوى الشرطة التي تلجم طموح الناس وحرياتهم، ما يعني إعادة إنتاج النظام الاستبدادي، مع تغيير في التسميات وإعادة توظيف الأدوار للمسلحين.
تحاكي موسكو برسالتها السلطوية (داخل سورية) إيران التي تمنّي النفس بإحكام إطباق يدها على مؤسسات الدولة جميعها، بما فيها أجهزة الأمن التي تهدّدها اليوم روسيا بإقامة الحد الرقابي على أدائها بمحاسبة “شبّيحتها” الذين تكاثروا داخل المجتمع السوري، بحماية إيرانية أيضاً، ليشكلوا طبقةً خاصة بهم، ومدارات جغرافية خارج قوانين الدولة. ولها أجهزة ردع وتعذيب للمواطنين السوريين، تنافس زنازين المعتقلات، وتصل إلى حد إطعام أجسادهم وهم أحياء للأسد الجائع كما حال الدقاق الذي يخشى السوريون أن محاسبته ستقتصر على محاكمة أسوده القاتلة (سلاح الجريمة)، على غرار التسوية التاريخية التي قادتها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي، عقب استخدام النظام السلاح الكيميائي في الغوطة 2013، وأدى إلى انتزاع السلاح من دون محاسبة مستخدمه. وهذا طبعاً ليس من باب المواجهة الروسية مع إيران التي يأملها الشارع العربي، ولكن تحت عنوان إعلان فشلها في حماية الأمن المجتمعي في سورية، لتمهيد الأجواء أمام انسحاباتها سراً من المساحات التي اعتبرتها إسرائيل خطوطاً حمراء غير مسموح لها الوجود عليها.
وليس من قبيل المصادفة أن تتسابق المنابر المحسوبة على روسيا في الكشف عن انتهاكات قوات النظام وأجهزته الأمنية، وما هو في سياقها من مليشيات شعبية، والإعلان عبر قاعدة حميميم عن إجراءاتٍ تطمينيةٍ للسوريين، وعقابية لهذه الأجهزة، بما يتعارض تماماً مع تصريحات موسكو عن سيادة سورية واستقلالها، واستعادة النظام السوري هيمنته على المناطق والمدن، ما يعني أن وراء هذه التهويلات الإعلامية لإجراءات شكلية “رسائل” حول طبيعة الحلول التي تعد سيناريوهاتها موسكو، بالاتفاق سراً وعلناً مع الإدارة الأميركية وحلفائها، ومنها إنشاء مجلس عسكري، يضبط إيقاع فروع الأمن المتنافسة مع بعضها على إذلال السوريين واستعبادهم، ويقود مرحلة الانتقال السياسي إلى حكمٍ، ليس بعيداً عن واقع النظام السوري الحالي، وليس قريباً من مطالب المعارضة التي تتحدّث عن نظام جديد، ينهي نظام الاستبداد القائم، ويؤسس لإقامة جمهورية سورية ثالثة، تلتزم قوانين حقوق الإنسان الدولية، وتوفر فرص حياة كريمة وحرة لكل السوريين.
وعلى الرغم من أن هذا المشروع لا تجمع عليه قوى المعارضة “المتناصّة” في اتجاهات مختلفة، والتي تتبلور رغباتها، حسب أيديولوجياتها التي تحرّكها، والجهات الداعمة لها، أي بين المشاريع الإسلامية والمتأسلمة ومستوياتها المتأرجحة بين المتشددة حيناً والمعتدلة أحياناً، والمشروع الديمقراطي المغيب، والمساحات الشاسعة بينهما، إلا أنها تبقى هي مطالب الحراك الثوري الأساسية، قبل أن ترهن المعارضة أدوارها للدول الممولة لحركاتها وفصائلها وكياناتها، أي أن الحل الذي يروج دولياً ينطلق من مبدأ لا غالب ولا مغلوب بين السوريين، أطرافا وأدوات مرتهنة لمصالح الغير، وفي غير المصلحة الوطنية، وهو ما سيجعله حلاً مؤقتاً إلى حين.
نعم، تكاد صورة الأسدين اللذين التهما حصاناً أصيلاً في القفص تختصر صورة الواقع السوري عبر خمسين عاماً، كما أن التلويح بعقد محكمة لإدانة المجرم هي اختصار لما يمكن أن يكون عليه الحل في سورية تحت طائلة التأجيل أو التعجيل، وفقاً لما يمكن أن يسمح به الوقت، لإعادة تفكيك النظام القائم وملاءمته، مع زرع شتول الدولة الجديدة، بما تحمله من انفتاح على ثورة مجتمعية جديدة، ستكون أشد وجعاً وأكثر قرباً من سورية السورية.
المصدر : العربي الجديد