ليست المرة الأولى في مصر وحدها، بل المرة الأولى عربيا، أن يُمنح فنانٌ أو أديبٌ أو مفكرٌ عربيٌّ واحدةً من جوائز الدولة الرسمية الرفيعة الكبرى في غير بلده، وهي المعتاد تكريم مستحقيها بها من أبناء الدولة نفسها. .. الحديث هنا عن جائزة النيل (كان اسمها جائزة مبارك قبل ثورة 2011)، وهي أرفع جائزة تقدّمها الدولة المصرية، تتبعها منزلةً الثلاث الأخريات، التفوّق والتقديرية والتشجيعية، وتُمنح في ثلاثة مجالات (نحو 28 ألف دولار لكل منها). الجديد كل الجدّة أنه تقرّر، بدءا من جوائز العام 2017 التي أُعلنت الأسبوع الماضي، أن تُضاف فيها فئةٌ لمستحقيها من المتميزين العرب، غير المصريين، سنويا.
وبعد مداولات المجلس الأعلى للثقافة، تقرّر منحها، في دورتها الأولى هذه، للتشكيلي السوري، يوسف عبدلكي (حُسمت له بعد تداول اسم التشكيلي السوداني محمد عمر خليل أيضا). ولهذا المستجد الثقافي، المصري العربي، أهميةٌ بالغةٌ، في سياقه العام والعريض، وهو، بالتأكيد، جديرٌ بالثناء والتقدير، سيما وأن ضربة البداية قوية، إذ ينال الجائزة العربية المصرية فنانٌ سوري، مخلصٌ للحرية، وصاحب منجز إبداعي لافت وعريض منذ أزيد من أربعين عاما.
مصر من أكثر الدول العربية تنظيما للمهرجانات والتظاهرات والملتقيات الفنية والإبداعية المنوّعة، ذات البعد العربي، وإنْ لم يعد لهذه المناسبات ما كان لها من قيمةٍ وأهميةٍ سابقا، وقد تم تكريم عشرات المبدعين العرب، بجوائز متفاوتة المستوى، في هذه الأنشطة، غير أن مسألة جائزة النيل مختلفةٌ عن هذا كله، بالنظر إلى رعاية المؤسسة الرسمية مباشرةً لها، وهذا لا يُبخّس أبدا من أهميتها.
ولذلك، فإن اعتناء وزارة الثقافة المصرية، وكذا المجلس الأعلى للثقافة، ببعدٍ عربي خارج مصر لهذه الجائزة يشتمل على معطىً خاص، وهو أن ثمّة عقلا ناضجا ما زال باقيا في مقطعٍ من منظومة الدولة المصرية، يكترث بقيمة الرابطة الثقافية الخاصة التي تجمع الإبداع العربي عموما، ومنه المصري طبعا. وأن نقع على هذا الأمر، في هذه اللحظة بالذات، المثقلة بخرابٍ شديد، حيث الخطاب القُطري البغيض، والاستعلائي المريض، وحيث ازورار العرب المهول عن بعضهم بعضا، فذلك يلزم أن يستحقّ تثمينا معلنا، وإنْ من منظورٍ يصدر، عموما، عن رفض نظام الاستبداد الانقلابي الراهن الذي يحكم مصر بذهنيةٍ شموليةٍ سافرة.
وفي ما يتعلق بالتشكيلي يوسف عبدلكي، من المفارقات أن هذا المبدع الرفيع لم ينل، طوال مسيرته الغنية بالتجدّد الفني والإبداعي، منذ نحو أربعة عقود، في بلده سورية أي تكريم، ولم تكترث أيٌّ من مؤسسات السلطة، المعنية بالثقافة والفنون، بمنجزه، بل حظي بسنتين في السجن في زمن حافظ الأسد، آثر بعدها اغترابا في فرنسا دام خمسة وعشرين عاما، قبل أن يعود إلى الاستقرار في دمشق في العام 2010، ويُصادَر جواز سفره، ثم يُعتقل أسابيع في غضون الثورة التي اشتدت لاحقا، قبل أن تنجح حملةٌ دوليةٌ في إنقاذه، واستعادته جواز سفره. وعلى الرغم من الأحوال المعلومة في بلده، إلا أنه مصرٌّ على البقاء في دمشق، وقد قال في مقابلةٍ شائقةٍ معه، نُشرت في “ضفة ثالثة”، إن وجوده في دمشق يُصالحه مع نفسه، ومع محيطه، أكثر من أي لحظةٍ عاشها خلال ربع القرن الماضي. ومعلومٌ أن أعمال هذا الفنان تنوعت بين رسم الكاريكاتير والغرافيك والنحت والرسم بالرصاص والحفر، وقد اشتغل على موضوعات الحرية والجمال والجسد والألم البشري. وفي أرشيف تجربته أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، إبّان اجتياح بيروت صيف 1982، سرق لوحة ثلاثية كبيرة له عن ألم الفلسطينيين في “أيلول الأسود”، كان قد أنجزها في 1976.
تقدير البادرة المحمودة من وزارة الثقافة المصرية يسوّغ التمنّي على السلطة في مصر، طالما أن حكومتها تكرّم فنانا سوريا معارضا بأرفع جوائزها، أن تكفّ عن اعتقال المعارضين المصريين وحبسهم، وبينهم أهل فكر ورأي وثقافة وإبداع..
المصدر : العربي الجديد