بكم لغة، وبكم قلماً، وبكم عنواناً، وبكم اسماً وصفة، سوف تُكتب رواية الحرب في سورية، وعليها، وقد بلغت سنتها الثامنة بعدما كانت بداياتها تبشّر بنصر غير بعيد؟
ثم، كيف يمكن التأمل، أو التكهّن، بموعد قريب للنهاية إذا كان النظام لا يزال يتكلّم بلغة بدايات الحرب، وكأنها مجرّد عاصفة وتمضي، أو كأنها أزمة عابرة من عاديات السياسة السطحية. مثال على ذلك في تصريح موجز ومكرّر للنظام منذ أيام وفحواه: «لم نتخذ بعد قراراً في شأن ما إذا كان الوضع في جنوب سورية سيحل من طريق المصالحة أو بالوسائل العسكرية»… ثم يعلن أنه يعطي مجالاً للعملية السياسية، فإذا لم تنجح، فلا خيار سوى التحرير بالقوة، وهذا يعني أن النظام لم يستعمل القوة بعد!
لكن الواقع هو أن النظام في حسابات الدول المشاركة في حرب سورية ليس أكثر من جبهة بين الجبهات المتصارعة، ولولا روسيا، بجيوشها وقياداتها، وقلاعها الحربية المتنقلة، وقواعدها الجوية والبحرية، بكامل معداتها وأسلحتها المتطورة التي تعادل أسلحة الحلف الأطلسي، ولولا إيران، وفصائلها العسكرية المحاربة بأحدث الأسلحة الهجومية، وبالذخائر، وبقيادات النخبة، مع أرقام الكلفة ببلايين الدولارات، لكانت الحرب السورية انتهت في سنتها الثانية.
حالياً، باتت سورية معلّقة على حبال المجتمع الدولي المتوافق، إلى درجة التواطؤ، على هذه البلاد العظيمة بشعبها، وبمكانتها، وبتاريخها المثقل بأمجاد الحضارات والبطولات، والمدنيات، وبالأدوار التي مرّت فيها عبر العصور حتى منتصف القرن العشرين، بعد نكبة فلسطين، حين ابتلت بالحكم العسكري الذي أطبق عليها أحكامه وبانقلاباته وهزائمه، وقد صمد حتى هذا الزمن الذي تتحلّل فيه مكوّنات سورية، الأمة، والكيان، والدولة.
ولقد أثبتت وقائع الحرب السورية منذ بداياتها حتى اليوم، أن ذلك «الربيع» الذي أطلّ من ربوع تونس مبشراً بالحرية، والمدنية، والعدالة، وبقيم العروبة، وبشائر النهضة، لاستعادة أمجاد مضت، مع وعد بتحرير فلسطين، لم يكن سوى غمامة عابرة ليحل بعدها الموت والدمار، فانهارت دول وأنظمة عربية، وتبعثرت ثروات طبيعية ضاربة في أعماق البحار والصحارى، كما انهارت منظومات اقتصادية واجتماعية لتحلّ مكانها فوضى، وأجيال فقر، وتخلّف، وهجرة، وتشرّد، وها هي سورية المثال البائس، واليمن المظلوم، وفلسطين المعزولة والغارقة في مصيبتها بغزة، ورام الله المثقلة بأعباء الاحتلال، وهموم الشعب الفلسطيني المنتشر في أقطار الشتات.
هي السنة الثامنة من مسيرة سورية إلى جنيف حيث يستمر الوعد بالخلاص معلقاً على حبال نزاعات إقليمية ودولية، فالنظام يداوم على تقديم ورقته تكراراً ببنودها التي تطالب بتنازل وفد الثورة عن ورقته التي تتضمن حقوق الشعب السوري بأن تكون له دولة مدنية دستورها العدل، والحرية، والديموقراطية، والقانون، مع عودة الملايين الموزعة على مختلف أقطار العالم، في حين تقيم الملايين الباقية على قلق، وبطالة، وفقر، في ظلال خرائب المدن التاريخية التي هجرها القادرون على العيش في الخارج، مخلّفين وراءهم الفراغ والركام واليأس.
ثماني سنوات ومؤتمر جنيف محجة الوفود الدولية، مقيماً، أو متنقلاً، بين عاصمة وأخرى، وفي كل دورة وفد «جديد» للمعارضة، بقيادة جديدة، وورقة جديدة، فيما وفد النظام ثابت، ولا يزال يتبدّل، ولا يتعدّل، وكذلك خطابه.
هي علّة الثورة السورية في دوراتها التي «تخرج» منها رؤساء، وكتّاب، وقادة، وخطباء، ولو عاد أركان الثورة إلى ملفاتهم التي تحتوي على وقائع مؤتمر جنيف منذ بدايات جلساته الأولى لاكتشفوا ثغرات كثيرة وكبيرة في إستراتيجيتهم المتبدلة بين وفد وآخر. هذه نقطة ضعف في سجلهم، ولعلهم يعيدون، من جديد النظر في مسيرتهم، على الصعيدين السياسي والعسكري، وقد تفرقوا على عواصم الدنيا، وكأنهم مستقيلون من مهمة مشرّفة لتاريخهم وقضيتهم.
بين جنيف، وسوتشي، وأستانة، وسواها من عواصم، ضاعت فرص كثيرة، وكان المنسق العام للأمم المتحدة، المداوم الوحيد المستمر في مسؤوليته، وإن من دون نتائج ذات مردود إيجابي على سورية المنكوبة. وقد سبق للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا أن صارح أعضاء وفد الثورة السورية بأنهم يضيعون فرصاً ثمينة ويخسرون دعم دول كثيرة، فيما وفود أخرى كانت تكرر في كل دورة مطالبها، وأولها انتقال السلطة من النظام الحاكم إلى هيئة مدنية بديلة تهيئ الشعب السوري لانتخاب رئيس مدني للجمهورية على قاعدة دستور جديد يضمن حقوقه وحرية اختياره.
في المقابل، كان ستيفان دي ميستورا، ولا يزال، ينشط في فراغ، وهو على أمل ضئيل بالوصول إلى تسوية، ومع ذلك كان يفرض وجوده في صفحات الإعلام العالمي، ومن خلاله كان، ولا يزال، يكرّر رؤيته للشعب السوري، وخلاصتها: أن هذا الشعب يريد بشدة إنهاء النزاع في بلاده، وأنه ينتظر التخلّص من المعاناة التي يعيشها على أرضه، ويحلم بالخروج من هذا الصراع المرعب إلى حياة جديدة بطمأنينة واستقرار… ولكن، كل هذا الكلام المكرر بلغات متعددة يستمر كفقّاعات صابون في الهواء.
في مطلع التسعينات من القرن الماضي، بعد سقوط مركز الشيوعية العالمية في الكرملين، أخذت جمهوريات أوروبا الشرقية تتساقط تباعاً. وما حدث بعد ذلك كان مذهلاً، إذ نهضت الأحزاب والهيئات المدنية والنقابات في تلك الدول لتملأ الفراغ الذي حصل في مقامات الحكم. كان الفراغ مباغتاً بتوقيته لكن البديل كان جاهزاً، وكان من الطراز المؤهل لمواكبة العصر الحديث. وهكذا برز مجدداً فاتسلاف هافل الذي قاد ثورة شعبية في تشيكوسلوفاكيا ضد النظام الشيوعي، وهو كان رمز «ربيع براغ» الذي سحقته دبابات «حلف وارسو». وفي بولونيا برز «ليش فاليسا» الصاعد من ميناء «غدانسك»، وجاء قادة آخرون تداولوا السلطة بعقل مدني وحكم ديموقراطي.
لم يكن الحكم البديل في أوروبا الشرقية وحده جاهزاً لملء الفراغ المباغت، بل كانت الشعوب أيضاً جاهزة لتتلقف فرصة الحرية، وهي راحت تصنع ديموقراطيتها وتلحق بمن سبقها في الغرب، وتتقدم عليه في غير مجال.
أما في دول العالم العربي التي تدعي أنظمتها الديموقراطية والعدالة، والحريات العامة، فالعنوان مخادع، بل كاذب، والبرهان أتى مع «الثورات» التي اختلفت قياداتها العسكرية والمدنية ببياناتها وشعاراتها، وتساوت بالفشل وخيبات الأمل، لتعود الشعوب من جديد إلى الاستكانة، والصمت، والانتظار، وكأن هناك آمالاً مرسومة في خيالاتها وأوهامها، مع صبرها الذي يؤول في النهاية الى يأس وصمت.
كل رئيس جمهورية، وكل رئيس حكومة في تلك الدول، جاء وخطابه في يمينه، وبرنامجه الإصلاحي عهد، ووعد، والنتيجة واحدة: إدارة متخمة بأركانها، متنازعة على مغانمها، وموصوفة بالفساد والشلل، والخدمات الشخصية، وفوق ذلك غرور واستعلاء على من يتطوع لنقد أو معارضة.
ثماني سنوات حرب في سورية، وعليها، وليس في الأفق العربي، الإقليمي، والدولي، ما يبشّر، أو يؤشّر، إلى نتيجة أو رجاء في القريب، أو البعيد من الزمن. وخلال السنوات الثماني المنصرمة على موت، ودمار، وانهيار مؤسسات، وسيل النازحين الهاربين من الموت والخراب، واليأس، لا يتوقف. ثمانية ملايين من السوريين، على أقل تقدير، باتوا موزعين على دول، وجهات، وشعوب، وأنظمة مختلفة، ولا غاية ولا مطلب لتلك الملايين سوى الأمان والطمأنينة والرجاء بما يتيسر من العيش، والسلامة.
وإذ تستحق الدول المضيفة، خلف البحار والمحيطات، الشكر والتقدير والاحترام والامتنان، فإنها لا تخفي غايتها من هذه المكرّمات الإنسانية، وذلك عندما توضح أنها ترحب بأجيال الفتوّة من الضيوف اللاجئين، وتمنح عائلاتها الأفضلية بالقبول، وتوفر لها شروط العيش الكريم والعلم والضمانات لتنشأ تلك الأجيال على لغات أنظمة الدول المضيفة وعلى ثقافتها، وعلومها، وعاداتها، وتقاليدها، وأهدافها، فلا تعود إلى جذورها وأصولها، بل تندمج في طبائع شعوب ومجتمعات دولها وأنظمتها المترافقة مع مسيرة العصور.
وربما كانت ألمانيا الدولة الأوروبية المثال في هذا المسار مع العائلات السورية، وغيرها، من المجتمعات العربية النازحة، وكأنها لا تخفي غايتها في التعامل مع مئات آلاف العائلات التي تستضيفها وتعد أولادها ليكونوا في صلب الأجيال الأوروبية الطالعة.
هي سورية التي تتوالد وتندمج في أوطان الأوروبيين وسواهم من شعوب الدول المتمدنة.
المصدر : الحياة