صحيحٌ أن استخبارات إيران استطاعت أن تجنّد وزيرا إسرائيليا سابقا، فقدّم لها معلوماتٍ قالت حكومة الاحتلال إن بعضها ذو قيمة حسّاسة. ولكن إسرائيل استطاعت أن تستعيد في “عمليةٍ خاصة شجاعة”، ساعة جاسوسها إيلي كوهين الذي أعدمه السوريون في دمشق قبل 53 عاما.
.. لا رابط بين الواقعتين، غير أنه في الوسع أن يُرى التدليس الكثير الذي روّجته الدولة العبرية بشأن “استردادِها” تلك الساعة، “من خلال دولةٍ عربية”، بغرض إظهار العصابة الحاكمة في تل أبيب قدرات جهاز استخباراتها الشهير، الموساد، أياما بعد إعلان إسرائيل نفسها عن ذلك النجاح الإيراني. ذلك أن تلك الساعة إنما تذكّر بصاحبها “الأسطورة”، بحسب وصفه الذائع في الدوائر الإسرائيلية، والذي استدعاه نتنياهو مزهوّا. ما يعني أن سقوط وزيرٍ سابقٍ طبيبٍ في بئر الخيانة (اسم فيلم مصري) لا يجوز أن يُنسي مواطني دولة إسرائيل، والجمهور العام، والعالم كله ربما، أن “الموساد” تمكّن يوما من زرع جاسوسٍ عتيدٍ في دمشق، كاد يُصبح قياديا في حزب البعث، وكان ينقل معلوماتٍ حسّاسةً عن الجيش السوري إلى إسرائيل، مساهمةً من “هذا المقاتل الشجاع في تعزيز أمن إسرائيل”، بحسب نتنياهو أيضا وأيضا، وبحسب الخرافة التي يُراد منها أن تؤبّد أسطورية إيلي كوهين، فيما المذكور لم يُحرز شيئا ذا قيمةٍ من العاصمة السورية، واقتصرت علاقاته مع ضباطٍ صغار، ومع راقصاتٍ، ثم انكشف أمرُه، فحوكم فأعدٍم.
يندسّ بين خبري”العملية الخاصة” في “استرداد” الساعة وبدء محاكمة الوزير السابق بحزمةٍ اتهاماتٍ ثقيلةٍ بالتجسّس لصالح إيران، خبرٌ نشرته مطبوعةٌ إسرائيليةٌ وحيدة، من دون متابعةٍ ملحوظةٍ في الصحافة العبرية، عن اجتماعٍ جرى في العقبة الأردنية، ضم رؤساء أجهزة المخابرات المصرية والأردنية والفلسطينية والإسرائيلية والسعودية. ولسنا مضطرين إلى تصديق هذا الخبر، وإن بدت ظاهرةً فيه مقاديرُ طفيفةٌ من شبهة صحّته. والبادي أن نزوعا انتصاريا يتبدّى في الأخبار الثلاثة، وأرادت إسرائيل الإيحاء به، فالوزير الجاسوس تم كشفه، وساعة إيلي كوهين تم استردادُها بعونٍ من “دولة عربية”، واجتماع العقبة نجاحٌ مضافٌ في مسار التطبيع النشط مع السعودية. ولكن، ثمّة كذبٌ مكشوفٌ في الأثناء، فليس من عمليةٍ خاصةٍ، ولا إسهام عربيا في ارتحال الساعة من دمشق إلى مقر “الموساد” في دولة الاحتلال، وإنما هو مزادٌ في شبكة الإنترنت، وُضعت فيه ساعة الجاسوس القديم، فاشتراها الجهاز العتيد، ثم صنَع الحكاية الهشّة، وأذاعها، كما “خرافاتٌ” غير قليلةٍ نسجها عن جواسيس رماهم في غير بلد عربي، ثم انكشفوا وحبسوا في مصر ولبنان مثلا، بعد أن خابت تدابيرهم (عزّام عزام في مصر والحنان تننباوم في لبنان، مثلان من بين كثيرين).
دلّت قصة مزاد الإنترنت التي تكذّب أزعومة العملية الشجاعة على أن إسرائيل، ذات القدرات النووية غير الخافية، والتي تبيع تكنولوجياتٍ عسكريةً للصين والهند، يحدُث أن تتوسّل حكاياتٍ مختلقةً، من أجل إشاعة إمكاناتها الخارقة في كل شيء. إنها إسرائيل نفسُها التي تقتل شيخا مقعدا، هو أحمد ياسين، في عودته إلى منزله من المسجد بعد صلاة الفجر، بإطلاق مروحيات أباتشي ثلاثة صواريخ عليه، وهو المُسالم الأعزل، ثم تشيع كلاما عن بطولة جيشها في تنفيذ الجريمة، بلغةٍ تكاد تشعرك بأن الفاعلين إنما هزموا جيش هتلر على أسوار ستالينغراد. ولكن، دلّت قصة الساعة، أيضا، على أن لؤم العدو الصهيوني لا تحدّه حدود، فأسطوانة إيلي كوهين لا يُراد لها أن تتوقف، والدأب الإسرائيلي من أجل استعادة رُفاته لا تضعُف له همّة، إذ لا تغيب طلبات نتنياهو من أصدقائه الروس، من أجل أن يُساعدوا في أمر “تحرير” هذا الرفات من دمشق. وهكذا، كأن عدوّنا يذكّرنا بما لا يجوز أن ننساه، أنه لا يقدّر رعاياه بأي ثمن، جنودا مأسورين في قطاع عزة، أو عظاما رميما في الشام، فيما تبرع أنظمةٌ عربيةٌ حاكمةٌ في ابتكار وسائل الإجهاز على أرواح رعاياها..
وهذا مجرد حاشيةٍ في قصةٍ طويلةٍ وعويصةٍ، تبدو فرية استرداد تلك الساعة، بعونٍ من دولةٍ عربيةٍ، فاصلةً في سطورها الكثيرة.
المصدر : العربي الجديد