ليكن واضحا أن الثورة السورية قد سحقت تحت أقدام الدب الروسي، الدب الروسي بالأساس، بعد أن فشل مرتزقة إيران الذين باتوا “القوة الأرضية” للطيران الروسي والصواريخ الروسية التي تسحق كل ما هو قائم، قبل أن تتقدّم تلك القوات، لكن الروس نجحوا في ذلك، لأن الدول الكبرى كلها، والدول الإقليمية، والعربية، عملت على تقييد أرجل المقاتلين، وحرفهم عن الوجهة التي توصل إلى نصرٍ باسم الأسلمة، أو تلقي الدعم، أو قبول الولاء لطرفٍ ضد آخر، بالتالي استمرار تفكك الكتائب المسلحة.
ليست هذه الثورة هي الأولى التي تُسحق عبر التاريخ، ثورات سنة 1848 سحقت كلها بوحشية، والثورة الإسبانية سحقت وتشرّد الثوار. في هذه الثورات، تكالبت الدول الرأسمالية، وحتى الرجعية، على الثورة. وكانت روسيا حصن الرجعية في أوروبا ضد ثورات، ووقف العالم الرأسمالي موحداً ضد الثورة الأسبانية. وها هو الأمر يتكرّر في سورية التي كان يجب فيها وقف امتداد الثورات في البلاد العربية. وقد أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، “كسر الثورات” في البلاد العربية، فالرأسمالية تخاف الثورات في بنيتها، ومواقع سيطرتها، وتخاف على ذاتها، بعد أن باتت في وضع أزموي. ولهذا كان يجب أن تلعب دوراً يقود الى مجزرةٍ بشعة ضد الشعوب. لنجد أن عالماً جديداً يتشكّل على جثة الشعب السوري، وأن الإمبرياليات تتقاسم العالم، بعد أن سحقت الثورة. وبات واضحاً توافقها على هذا السحق، وتكريس بقاء النظام ذاته، من روسيا إلى أميركا إلى الدولة الصهيونية التي أعلنت موافقتها على بقائه، وكذلك تفعل أميركا، ويتّضح أنها كانت من الأساس مع بقائه.
لكن هذه ليست النهاية، إنها نهاية مرحلة. لقد سحقت الثورة ولم ينته الصراع، وليس من أملٍ بأن ينتهي ما دام الشعب يريد إسقاط النظام، ليس نتيجة حقد غريزي، ولا نتيجة سبب ديني أو طائفي، بل لأن الشعب لم يعد قادراً على أن يستمر في العيش، نتيجة وجود النظام الذي ينحكم لطبقة مافياوية نهبته، وهو مقيّد اليدين بفعل الطابع الاستبدادي الشمولي للنظام. والآن، مع وجود ملايين المهجّرين، وملايين الذين فقدوا بيوتهم وأملاكهم، لن يكون ممكناً أن يُعلن النصر الذي يريده الروس، ولا أن يستقرّ وضع النظام، مهما كانت قوة الروس.
شهدت الثورة السورية بطولاتٍ كبيرة، وجرأةً لا توصف، وظهر تصميم الشعب على إسقاط النظام الذي كان بحاجة إلى كل هذه القوى العالمية، لكي يبقى حذاءً محمولاً على رؤوس كل هذه القوى، ومطيةً لتنفيذ ما يريد الروس وحدهم. ولا شك في أن الثورة أوجدت خبراتٍ هائلة، وصنعت رجالاً حقيقيين، وقدّمت دروساً غايةً في الأهمية، بما يؤسس لوجود “خميرةٍ” قادرة على النصر. لكن قبل ذلك لا بدّ من البدء بنقد قاسٍ لكل القوى المعارضة والنخب التي كانت من التفاهة والانحطاط ما جعلها من القوى التي أسهمت في سحق الثورة، فهي لا تفهم بالسياسة، ومتضخّمة بنرجسيتها، وشرهة لمصالحها، وكثير منها قابل للبيع. هذا شأنٌ يستحق عمل جردة حساب قاسية، ولكن الآن لا بدّ من التأكيد، وتركيز التأكيد، على أن سورية باتت دولةً تحت الاحتلال، وهذا أمر يقتضي أن يعمّم، وأن يجري العمل على طرح المسألة دولياً، بغض النظر عن النتائج. وكما بات يتحقق شيءٌ من محاكمة مجرمي الحرب، يمكن أن يجري السعي في الأمم المتحدة لإقرار أن سورية دولة تحت الاحتلال، ولم تعد دولةً مستقلة. والأهم أن يمارس على الأرض ما يعطي هذه المسألة حقها. ومقاومة الاحتلال هو أبسط ما يمكن أن يجري العمل به. لا بد من ضرب الوجود العسكري الروسي، وتكبيدها ما يوازي جرائمها.
الثورات تُسحق، لكنها لا تموت. ستنهض الثورة من جديد، لا شك في ذلك، كما الثورات في البلاد العربية، في عالم عاصفٍ ومحمّلٍ بمخاض كبير.
المصدر : العربي الجديد