في زيارتي القصيرة لبغداد في مؤتمر القمة العربي المنعقد في 2012 فوجئت بغياب أي حالة من حالات إعادة البناء لكل ما له علاقة بحرب 2003 والعقوبات المفروضة على العراق منذ عام 1990. كان سائق المركبة التي أخذنا كل يوم للمؤتمر وأعادنا للفندق في المنطقة الخضراء يعلق على أوضاع العراق بأسلوب ساخر:
«انظر إلى هذه الطرق، لم يغيرها احد لم يجددها أحد منذ حرب 2003. هذا الشارع لم يرمم منذ داسته الدبابات الأمريكية في 2003. أنظر للأبنية هنا وهناك لا مشاريع ولا تجديد، هذا بلد منهوب ونحن ضحايا».
اسمع ما يقوله السائق المنتمي لجنوب العراق وللمذهب الشيعي ثم أعلق قائلا: «لكن المستقبل مفتوح بعد أن تغير الوضع في 2003، ها أنتم تعقدون مؤتمر قمة عربيا هو الأول من نوعه منذ سقوط نظام صدام». يرد بسرعة:
«لن يعود علينا هذا المؤتمر بالنفع، الكل هنا مشغول بكل شيء إلا ما يتعلق بنا نحن الناس البسطاء والعمود الحقيقي للعراق. هناك قوى أكبر منا لا تريد لنا أن نقف على أرجلنا، لقد وقعنا في فخ كبير».
حاولت ان أهدأ من تصاعد لغة الحديث ليبقى مركزا على الطريق أثناء قيادته للمركبة:
«هذه حالة حرب، اعرف كم هي صعبة، لكن يبدو أن من جاءوا من الخارج كانوا مفصولين عن العراق».
وإذا بالشابة الكردية التي كانت ترافقنا نيابة عن الخارجية العراقية:
«شخصيا عدت للعراق الجديد لأبني العراق، لكني وجدت نفسي أبني مناطق الأكراد، كل شيء هناك مختلف، كل ما تراه في بغداد من دمار ستجد عكسه في كردستان العراق حيث الطرق الناشئة والمشاريع الجديدة والبناء الحديث. أنصحك بزيارة كردستان العراق لتشعر بالفارق بين ما تراه هنا وما ستراه هناك. تعال عنا وشوف الجدية».
ولفهم وضع العراق منذ 2003 يقع اللوم الأول على الولايات المتحدة التي دمرت مشروع الدولة العراقية. إن تدمير الولايات المتحدة للدولة العراقية عبر تفكيكها وحل الجيش تدمير الأجهزة السيادية العراقية ساهم بخلق فراغ كبير نجحت إيران في تعبئته فيما بعد. لهذا أصبحت إيران بعد 2003 الأكثر تحكما بالحياة السياسية العراقية. لكن إيران منذ بداية سيطرتها سعت لأن يبقى العراق ضعيفا تتحكم به احزاب مرتبطة بها. هذا يشبه في جانب سياسة سوريا الأسد في لبنان منذ ثمانينيات القرن العشرين. لم تكن إيران تريد ان يتحول العراق لحليف قوي، بل أرادت إيران ان يكون جارها العراقي مكانا يسوده الضعف و يسهل التحكم به. لقد خضعت التيارات العراقية القريبة من إيران للسقف السياسي الإيراني، مما حول مشروعها لمشروع سلطة وامتيازات عوضا عن أن يكون مشروع بناء دولة وتجديد. وهذا بدوره يفسر طبيعة الغضب الذي يسود اليوم جنوب العراق والموجه للدولة وللأحزاب المسيطرة كالدعوة وتيار الحكيم والقوى المرتبطة بإيران.
لقد ادت السيطرة الإيرانية في العراق وخاصة في الجنوب لدعمها لكل تيار أو مكتب أو حزب حتى لو كان هزيلا وبلا ادنى شعبية. هذه السياسة من قبل إيران جعلت القوى الجنوبية الحية والايجابية والرافضة للفساد والمؤمنة بعروبة العراق (عروبة عشائر الجنوب) غير قادرة على التعامل مع هذا الوضع. لقد أخافت هذه السياسات الجيل العراقي الحريص على مستقبل العراق، كما ارعبت المرجعية الدينية في النجف وعلى الأخص مرجعية السيستاني التي رأت العراق يزداد هزالة بينما يفتقد لشروط البقاء.
لقد إعتقد النظام في بغداد منذ ما بعد 2003 بأن دعمه للمواكب الدينية واحتفاله بعاشوراء والرموز الدينية كاف لإنهاء التميز ضد أهل الجنوب. وبالفعل لبت الاحتفالات الدينية بعدا دينيا سبق وان حرم منه الجنوبيون في زمن النظام السابق. لكن ذلك لم يحل أي مشكلة تتعلق بالحياة والعمل والبطالة والتعليم والصحة. بل كانت البطالة ترتفع وتتضاعف و الفقر وسوء الخدمات ونقص الحياة الكريمة يتراكم. المواطن العراقي في الجنوب بدأ يحِّمل هذه التيارات المسؤولية من خلال دورها في الحكومة، كما أنه حملها مسؤولية الفساد الذي انتشر بفجاجة في العراق، فقد أدت سياسات الأحزاب المرتبطة بإيران للتراجع الاقتصادي والبطالة. ولقد تحول مؤخرا عدم توفر الكهرباء لساعات تصل لتسعة في اليوم بالإضافة لعدم توفر المياه في المنازل لسبب رئيسي في انفجار الغضب الجنوبي على شكل مظاهرات وانتفاضة ضد الطبقة السياسية العراقية. كان من الطبيعي ان تأتي المظاهرات في الجنوب من خارج القوى السياسية المسيطرة.
لقد فات النظام في العراق بأن حربه ضد داعش منذ سقوط الموصل في 2014 إعتمدت على فقراء الجنوب من المذهب الجعفري. ومنذ نهاية الحرب ضد تنظيم داعش {الدولة الاسلامية} في 2017 تم تسريح عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات من المقاتلين الجنوبيين ممن اصبحوا بلا عمل او مأوى او حقوق. لقد رفعت الحرب ضد داعش آمال الجنوبيين بمستقبل تنموي، لكنهم إكتشفوا بعد هزيمة داعش بأن الدولة الاسلامية كانت تعبيرا عن مشكلة اعمق في النظام السياسي.
إن الأوضاع التي جعلت قوات داعش قادرة على إسقاط الموصل ثاني مدن العراق بالإضافة لمناطق كثيرة في شمال العراق خلال ساعات وايام، قادرة بنفس الوقت، على إسقاط الجنوب بأيام. هذا دليل على مدى ضعف الدولة العراقية وهشاشتها. الشمال والجنوب يعانون من ذات الاشكال، ففي الشمال السني تهميش ما بعده تهميش وفي الجنوب الشيعي تهميش في ظل الفساد وضعف الدولة وإنحراف التمثيل. ان تأثير الانتخابات الأخيرة في العراق والتي سادها الكثير من الفساد كحوادث حرق صناديق لمنع الفرز اليدوي، دفع الناس في الجنوب للاعتقاد بأن صوتها لن يسمع إلا إذا نزلت للميادين والشوارع.
ان الانتفاضة القائمة في العراق تؤكد بأن قيام مشروع سلطوي جديد في العراق على انقاض مشروع صدام السلطوي لن يقدم استقرارا للعراق. فمع الديكتاتورية تتعمق التبعية للخارج ويقع التراجع تلو التراجع. المواطن اكان سنيا أو شيعيا يريد حقوقا واضحة واقتصادا منتجا وعملا مثمرا وتعليما مفيدا. إن حراك الجنوب دليل جديد على طبيعة المجتمع العراقي الباحث عن المستقبل والحقوق، لكنه دليل على أن مواطني العالم العربي لم يعودوا قادرين على تحمل الفساد والنهب والتسلط أجاء هذا الفساد والتسلط بغلاف سني أم بغلاف شيعي، بغلاف ديني أم بغلاف علماني. أن السلطة في البلدان العربية تزداد توترا بسبب وقوعها بين مطرقة الإنجاز ومطرقة الشارع الذي يزداد جرأة في طرح مطالبه.
المصدر : القدس العربي