عادت التغريدات الإيرانية حول تعويضات الحرب مع العراق إلى الواجهة من جديد، وذلك ردا على تصريح رئيس مجلس الوزراء العراقي عن اضطرار العراق إلى الالتزام بالعقوبات الأمريكية على إيران؛ فقد غرد النائب الإصلاحي محمود صادقي، المقرب من روحاني، بأن الحكومة الإيرانية «أخرت» المطالبة بالتعويضات بسبب المحنة التي يمر بها الشعب العراقي! ثم غردت نائبة رئيس الجمهوري الإيرانية لشؤون البيئة معصومة ابتكار بأنه يجب «إضافة التعويضات البيئية لحرب العراق، والحرب الكويتية، والأضرار التي لحقت بالخليج»!
وكعادتهم هرول بعض العراقيين المحسوبين على إيران، إلى تبني خرافة التعويضات الإيرانية هذه، والتعامل معها بوصفها أمرا واقعا. هكذا أتحفنا الشيخ جلال الدين الصغير، القيادي في المجلس الإسلامي الاعلى، بخطبة عصماء في جامع براثا عن قرار للأمم المتحدة يلزم العراق بأن «يدفع ترليون ومائة مليار دولار إلى الجمهورية الإسلامية تعويضات عن الحرب» وأن الإيرانيين متفضلين «قد سكتوا عن ذلك وقالوا إن العراق في محنة»!
وحقيقة الامر ان مجلس الأمن الدولي أصدر ستة عشر قرارا تحت عنوان «الحالة بين العراق وإيران»، بداية من القرار 476 في العام 1980، ثم القرارات التي تلت على مدى 11عاما. ولم ترد في أي من هذه القرارات أية إشارة إلى مسألة التعويضات! ولكن كانت هناك بعض الإشارات العرضية إلى مسألة أسباب النزاع، وتحديد المسؤولية عنه. فقد أشار قرار مجلس الأمن رقم 514 الصادر في عام 1983، لأول مرة، منذ بداية الحرب، إلى «استصواب إجراء دراسة موضوعية لأسباب الحرب». كما أشار قرار مجلس الأمن رقم 582 عام 1986، إلى انه يأسف «للأعمال الأولى التي كانت السبب في نشوء النزاع بين إيران والعراق، ويأسف لاستمرار النزاع»، ومن الواضح انه يقصد بالأعمال الأولى الانتهاكات الإيرانية التي سبقت إعلان الحرب، كما سيتضح ذلك من خلال تقرير الأمين العام اللاحق.
ولكن الإشارة الأهم، والتي يستخدمها الإيرانيون عادة في تسويق خرافة التعويضات، هي تلك التي جاءت في قرار مجلس الأمن رقم 598 الصادر عام 1987، فللمرة الأولى، يعلن مجلس الأمن عن عزمه «وضع حد لجميع العمليات العسكرية بين إيران والعراق»، وإلى أنه إذ يتصرف تبعا للمادتين 39 و 40 من ميثاق الأمم المتحدة، يقرر في الفقرة 6 منه انه «يطلب إلى الأمين العام أن يستكشف بالتشاور مع إيران والعراق، مسألة تكليف هيئة محايدة للتحقيق في المسؤولية عن النزاع، وأن يقدم تقريرا إلى مجلس الأمن في أقرب وقت ممكن». أي أننا أمام طلب تشاور مع كلا الدولتين حول مسألة تشكيل لجنة كهذه، ليس أكثر، ومن ثم فإن هكذا لجنة يجب أن تحظى بقبول كلا الطرفين بداية. ولكن هذه المشاورات لم تتم، ولم يتم تشكيل أو تكليف لجنة محايدة للتحقيق. ثم إن الطلب يتعلق بتحديد المسؤولية عن النزاع حصرا. خاصة وأن الفقرة 7 من القرار تتحدث عن حجم الأضرار، والحاجة إلى إعادة الإعمار بمساعدة دولية مناسبة، كما يطالب المجلس الأمين العام تعيين فريق من الخبراء لدراسة مسألة إعادة الأعمار.
وقد قدم الأمين العام للأمم المتحدة في حينها خافيير بيريز دي كويلار، في 9 كانون الأول 1991، تقريرا إلى مجلس الأمن حول تنفيذ قرار المجلس رقم 598، جاء فيه أنه لأجل أغراض الفقرة 6 من القرار، فقد طلب من حكومتي إيران والعراق تفاصيل حول موضوع الفقرة، وانه في الوقت نفسه قرر «استشارة بعض الخبراء المستقلين على انفراد»، ومن ثم فإنه في ضوء رد الحكومتين والاستشارة، يبين في الفقرة 7 من التقرير ما نصه: «حتى وإن كانت هناك بعض التجاوزات من إيران على الأراضي العراقية، فإن هذه التجاوزات لا تبرر العدوان العراقي على إيران ـ الذي أعقبه احتلال العراق المستمر لأراض إيرانية خلال النزاع ـ وانتهاك لحظر استخدام القوة، الذي يعتبر قاعدة من القواعد الآمرة». ويلحق ذلك بالفقرة 9 التي جاء فيها: «حسب رأيي فإن متابعة الفقرة 6 من قرار 598 لا يبدو أنه سوف يخدم أي هدف مفيد. من أجل مصلحة السلام وعلى طريق تنفيذ القرار 598 (1987)، بوصفه خطة سلام شاملة، فأن من الملح الآن المضي قدما في عملية/تقدم الاستقرار». على أنه يجب الانتباه إلا انه لا يمكن عزل ما جاء في هذا التقرير عن سياق حرب تحرير الكويت، وعن دور الأمين العام نفسه في سياق ما قبل هذه الحرب!
فالأمين العام، إذا، يتحدث في تقريره عن طلب توضيحات من الحكومتين العراقية والإيرانية، وليس عن مشاورات بشأن تشكيل لجنة تحقيق. ثم يتحدث عن «استشارات» شخصية وليس «تحقيقات» كما طالب قرار مجلس الأمن. ثم يتحدث عن رأيه الشخصي في توضيحات الجانب العراقي، ومن ثم، فإن رأيه حول من بدأ الحرب هو رأي شخصي للأمين العام ولا قيمة قانونية له، إذ لا يعطي الميثاق للأمين العام للأمم المتحدة أية صلاحيات، ويقصر دوره في «القيام بالوظائف» التي توكلها إليه «الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية» (المادة 98 من الميثاق). والأهم من ذلك أنه يتحدث في التقرير نفسه عن أن متابعة هذا الموضوع لا يخدم أي غرض، أي أنه لا يرى أية جدوى من التحقيق أو حتى إثارة موضوع من بدأ النزاع أصلا.
وكما هو واضح، لم يرد في أي من قرارات مجلس الأمن، أو في تقرير الأمين العام أي حديث عن «تعويضات»، لا تصريحا ولا تلميحا. بل إننا لا نجد في ميثاق الأمم المتحدة، ولا حتى في الفصل السابع منه، أية إشارة إلى مسألة التعويضات. والإشارة الصريحة الوحيدة إلى التعويضات كانت في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 487 لسنة 1981، الذي صدر بعد الغارة الإسرائيلية على مفاعل تموز، حيث نصت المادة 6 منه: «أن من حق العراق المطالبة بالتعويض المناسب على الدمار الذي حصل، ولمسؤولية إسرائيل التامة التي تم الاعتراف بها». ثم كان الأمر أكثر وضوحا القرار 674 لسنة 1990 المتعلق بالعراق والكويت، إذ تم النص صراحة على أن مجلس الأمن يتصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق، ونصت الفقرة 8 على أن العراق «مسؤول عن أي خسارة أو أضرار أو إصابات تنشأ فيما يتعلق بالكويت والدول الثالثة»…. كما دعت الفقرة 9 «الدول إلى جمع المعلومات ذات الصلة المتعلقة بالمطالبات والتعويض المالي»، وترسمت هذه المسألة بقرارين هما القرار 687 والقرار 693 اللذين أسسا لنظام التعويضات، وأنشئ، تبعا لذلك، صندوق لدفع تلك المطالبات، ولجنة لإدارة هذا الصندوق.
يبدو واضحا، إذا، أن حديث التعويضات الإيراني مجرد تأويل وقياس لا سند قانوني له مطلقا.
ولا تقف الخرافة الإيرانية عند حد الإشارة إلى التعويضات، بل تتجاوزها للحديث عن قيمة متخيلة أيضا لحجم هذه التعويضات، أوصلها بعضهم إلى تريليون ومائة مليار دولار! فبالعودة إلى تقارير الأمم المتحدة، نجد ان الأمين العام للأمم المتحدة كان قد أرسل في أيار 1991 وفدا إلى طهران لتقييم الأضرار، وتكررت الزيارة في تشرين الأول 1991، تنفيذا للفقرة 7 من القرار الذي يطالب فيه مجلس الأمن من الأمين العام «تعيين فريق من الخبراء لدراسة مسألة إعادة الأعمار». وحسب تقرير اللجنة تم تقييم الأضرار بما يقرب من 100 مليار دولار كأضرار مباشرة وغير مباشرة، ولنلاحظ أن هذه الزيارات وتقرير اللجنة تم قبل تقديم تقرير الأمين العام في 9/12/1991، ولكن الأمين العام لم يشر إلى ذلك مطلقا في تقريره إلى مجلس الأمن. أي أن الحديث عن الأضرار وتقييمها لا علاقة له مطلقا بالحديث عن التعويضات.
لقد ظلت مسألة التعويضات حاضرة إعلاميا بين العراق وإيران طيلة المدة اللاحقة لنهاية الحرب في 8/8/1988، واستمر كيل الاتهامات وتحميل المسؤولية، حول من بدأ النزاع اولا لعقود وكلاهما كان يدرك تماما بأنه لا تبعات قانونية لتقرير الأمين العام المذكور. ولكن الوضع تغير بعد نيسان 2003، فلم يعد تقرير الأمين العام مهما هنا، ذلك إن الخطاب الرسمي العراقي، وعلى أعلى المستويات، هو الذي تبنى هذا الموضوع، من خلال تكرار اتهام النظام السابق بالمسؤولية عن شن الحرب ضد إيران، بل إن السيد عبد العزيز الحكيم، عندما كان رئيسا دوريا لمجلس الحكم الذي شكلته سلطة الإحتلال، حاول إلزام الدولة العراقية بما لا يلزم، فبادر متطوعا بالحديث عن ضرورة حسم قضية التعويضات المتخيلة لإيران.
المصدر : القدس العربي