“أنا لست شارلي”.. أنا سورية أعيش في بيروت مع غيري من السوريين. معظمهم من النازحين والهاربين من الموت والدمار. عدد منهم توفي قبل أيام، تحت السماء ذاتها التي تظلّل الأميركي والفرنسي والروسي والإيراني والفلسطيني والعراقي والصومالي. عدد منهم تجمّد الدم في عروقه ولم تعد رئتاه الصغيرتان قادرتين على استيعاب الهواء القارس في خيمة مزّقتها الريح وأثقلها الثلج وسحبتها السيول الجارفة على ذات الأرض التي يعيش فوقها رتل الزعماء المتظاهرين في باريس قبل أيام.
“أنا لست شارلي”، لأنني لا أمتلك حقوق “شارلي” في التعبير وكسر المحرّمات. لأنني انتفضت قبل أربعة أعوام، فقتلني جيش يحمل جنسيتي ويقاسمني الأرض والهواء والماء. لأن رتل الزعماء المتظاهرين في باريس قبل أيام، صمت لأربعة أعوام، واكتفى بالتفرّج علي وأنا أتعرض للتعذيب وتنتزع حنجرتي وتخلع أظافري ولحمي يلتصق بعظامي من الجوع ووجهي يتلوّن بالأزرق وأنا أختنق تحت قصف الكيماوي. كانوا هناك يتفرّجون، كلّ في قصره، أمام تلفازه وأمام التقارير التي تصله عن مأساتي، يتفرّجون بصمت، لا يحرّكون ساكناً، فقط يبوحون بقلقهم وبحزنهم. ربما أذهلهم وجعي، وربما ذرفوا دمعة أو دمعتين، لكنهم لم يجتمعوا ولا مرة واحدة، صفاً مرصوصاً، كما جمعهم الإرهاب قبل أيام في باريس.
“أنا لست شارلي”.. لكنني ضدّ الإرهاب أينما حلّ. أنا سوري استبدلت صورة بروفايلي على صفحة الـ”فيس بوك” بصورة لـ”شارلي”، وبعدها بأيام قليلة استبدلتها بصورة للناشط السعودي رائف بدوي المحكوم بألف جلدة وجلدة وبالسجن عشر سنوات بتهمة “إهانة الإسلام”. وقبلها استبدلت صورتي بصورة “بابا نويل” ألقي القبض عليه في عمان بتهمة “التبشير”. واستبدلتها أيضاً بصورة نشطاء إيرانيين حكموا بالإعدام تعسفياً. وبصورة الشاعر القطري محمد بن الذيب العجمي. ولا أنسى صورة ضحايا الهجوم على مدرسة بيشاور في باكستان. نعم أنا السوري الذي يجد متسعاً من الوقت لمتابعة أخبار العنف والتعدي على حقوق الإنسان في العالم. ولا يجد الكثيرون متسعاً من الوقت للتعاطف مع قضيتي. كل صباح، تضيفني دولة جديدة إلى قائمة “غير المرغوب” بهم. وكل صباح، أجد من يطردني من عملي أو “بيتي” أو “خيمتي”. وكل صباح، أفقد حيزاً من روحي. ومازلت قادراً على التعاطف مع قضايا الغير، لأنني مع الحرية أينما احتاجها الناس، وأينما احتجز حقهم في التعبير والعيش بكرامة.
“أنا لست شارلي”، لأنني أرفض الـ”لكن”. لا أقول إنني ضد قتل المدنيين ولكن.. ولا أقول إنني ضد الطغاة ولكنني مع “علمانيتهم”. ولا أقول إنني مع قضية الشعوب في التحرّر في أفغانستان والبحرين والسعودية وفلسطين، لكنني ضدها في سورية. ولا اقول إنني ضدّ التدخل الخارجي باستثناء التدخل الإيراني والروسي أو الأميركي. كما أنني أجد صعوبة في تخوين من يدعو للتدخل الأميركي ضدّ نظام مجرم، ثم مباركة دعوات البعض الآخر في تدخل “قوات التحالف” ضد “داعش”.
كيف أكون “شارلي” والزعماء المتظاهرون قالوا إنهم “شارلي”؟ كيف أكون هم؟ وأتساءل من جديد عن التركيبة النفسية للرأي العام العالمي. سكين “داعش” إرهابية بالتأكيد. وعملية الهجوم المسلح والاعتداء على إثني عشر صحافياً ورساماً وقتلهم بدم بارد، إرهاب ما بعده إرهاب. لكن (وهنا الـ”لكن” مقدسة)، ما الذي يبرّئ النظام السوري من صفة الإرهاب؟ ما الذي يجعل فعل قتل إثني عشر شخصاً، أشدّ وطأة من قتل وإعدام أكثر من 200 ألف سوري خلال ما يقارب الأربع سنوات؟ أي وقع أحدثته الخمسون ألف صورة التي سرّبتها قناة الـ”سي إن إن” الأميركية وصحيفة “الغارديان” البريطانية عن جثث المعذبين في السجون النظامية السورية؟ ألا تدخل وسائل التعذيب تلك في خانة “الإرهاب”؟ أم أن هوية المعذبين تحدّد إن كان الفعل إرهاباً أم مجرّد تعدٍّ على مبادئ “حقوق الإنسان” مما يثير بعض القلق! لو أن النظام السوري يمارس بعضاً قليلاً من ذلك التعذيب على صحافيين أجانب، هل كان سيحتفظ الغرب بردّ الفعل ذاته؟
“أنا شارلي”، فقط عندما تسمحون لي أن أكونه حقاً. عندما تعترفون بي “شارلي” ضحية لإرهاب نظام مجرم يقصفني ويدمّر بيوتي ويعذّبني ويقطّع أوصال جسدي كأنني قطعة قماش طبعت عليها خريطة سورية التي يشتهيها. “أنا شارلي”، شرط أن تمنحوني حقي في العيش بكرامة وفي التعبير بحرية من دون أن أتعرض لرشاش إرهابيين ومن دون أن تقصفني طائرة أو يقتلني الجوع أو تضيع جثتي ولا يجد أهلي قبراً يحتوي جسدي، يلوذون به إن ضاقت بهم الدنيا، وما أضيقها.
أورينت نت – وطن اف ام