يبدو أن كل إعادة إلى الأساس الاقتصادي للثورات يستفزّ “النخب”، خصوصاً السورية، بشكل لافت. تثير الرعب لديها، فتندفع إلى “الهجوم”. ولا شك في أن رد الأستاذ حسين عبد العزيز على مقالين لي تناولا الثورات في سورية ومصر (رداً على سلامة كيلة.. قراءة خاطئة لأسباب الثورات، العربي الجديد 8 /2 /2015) سيبدو مثالاً جيداً على ذلك، إذ تظهر حالة “إقناع الذات” بأن “السياسي، وليس الاقتصادي، هو سبب الثورات”. معمماً ذلك على “التجارب الثورية العالمية”، ومبتسراً فهم الواقع بما يتوافق مع هذه الفكرة، ومستنداً إلى من كان يفعل الأمر نفسه، أي “إقناع الذات”، بأن أساس الثورات سياسي، وملتقطاً من الواقع ما يتوافق مع فكرته، أو عارضاً الواقع في “صورة متخيلة”، ليصل إلى أن قراءتي ناقصة، أو ربما غير تاريخية، وتكرر قراءة تقليدية للماركسية، جرى تجاوزها، خصوصاً من غرامشي وألتوسير. أبدأ بكل هذا التشوش، فأولاً غرامشي استند إلى الأساس الاقتصادي في تحليله، مركزاً على ما لم تبحث فيه الماركسية، وهو المستوى السياسي، وكتاباته تقول ذلك صراحة. وألتوسير جعل ماركس “عالم اقتصاد” فقط.
بالتالي، يبدو واضحاً أن حسين لم يقرأ لا غرامشي ولا ألتوسير. ثم ثانياً، يشير إلى ثورات تونس ومصر، متجاهلاً أن الشعار الأول في الثورة التونسية كان “العمل استحقاق يا عصابة السرّاق”، وأن الشعار الثاني خصّ الأجور، ثلاثة أسابيع قبل أن يُطرح شعار الشعب يريد إسقاط النظام، وقبل أن تُطرح المطالب الديمقراطية. وفي مصر، تضمن بيان الدعوة لاعتصام 25 يناير على خمسة مطالب، ثلاثة منها تخص الاقتصاد (العمل، الحد الأدنى للأجور وإعادة الأرض إلى الفلاحين)، وحين بلور شباب الثورة في الميدان مطالبهم، كان الشعار: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. وعلى الرغم من نشاط حركة كفاية، إلا أن دورها كان هامشياً في الثورة (كانت تظاهراتها السابقة، على الرغم من أهميتها تشمل المئات فقط). وهنا نجد “عدم معرفة” بالواقع كذلك. ثم ثالثاً وضع تونس الاقتصادي لم يكن جيداً، ولا ليبيا ولا عُمان والسعودية، البلدان النفطية، بل كان الشعب مفقراً كذلك. وهنا، لا يعود الأستاذ حسين إلى الأرقام، بل يعتمد ما كان يقوله صندوق النقد الدولي عن “المعجزة التونسية” (تراجع عنه بعد الثورة). ولا شك في أن الشعارات الأولى التي أشرت إليها تواً توضّح هذا الأمر. وهنا يجري الاعتماد على شذرات متكررة في الإعلام، وليس على فهم الواقع، وإذا كان الدكتور عزمي بشارة قد أشار إلى تونس قبل سبع سنوات، فقد نشرت كراساً قبل ثماني سنوات، عنوانه “طريق الانتفاضة، لماذا تثور الطبقات الشعبية”، كتبت فيه أن البلدان العربية مقبلة على الثورة، بالضبط، لأنني كنت أتابع التحولات الاقتصادية، والتهميش والفقر والبطالة التي كانت تتعمم. والكراس موجود على شبكة الإنترنت قبل نشوب الثورات، ومطبوع سنة 2007. ثم أخيراً، يعتمد حسين على ما قاله صموئيل هنتغتون حول بلدان أميركا اللاتينية، فقد أشار إلى أن 90% من الثورات فيها كانت قد حققت نمواً اقتصادياً، أي لم يكن الاقتصاد السبب. ولا شك في أن هنتغتون كان يراوغ من أجل تجاهل النهب الإمبريالي، فكل ثورات أميركا اللاتينية نشبت نتيجة التمايز الطبقي الصارخ الذي نتج عن نهب أميركا خصوصاً. وهو يعتمد، في إشاراته إلى التقارير الدولية التي تريد رسم صورة وردية لاقتصاد تلك البلدان. فقد كانت البرازيل معجزة اقتصادية، لكنها انهارت وأفلس شعبها، كذلك الأرجنتين، بداية ثمانينيات القرن الماضي، والبيرو وكولومبيا ونيكاراغوا وغواتيمالا وغيرها. يا عزيزي، لكل ثورات التاريخ، إلى الآن، أساس اقتصادي، فقط ثورات البلدان الاشتراكية كان لها علاقة بالشمولية (وليس بالاستبداد فقط)، حيث كان الوضع الاقتصادي “معقولاً”. ولا شك في أن غياب الفهم العميق لواقع الشعوب يسمح بوضع الذات بديلاً، ووضع الرغبة الذاتية مكان الواقع المجتمعي. خصوصاً لدى شعوبٍ لا تعرف الفكر والثقافة والسياسة بشكل كافٍ، وبالتالي، لم تصل إليها أفكار الحداثة التي منها الحرية والديمقراطية وتداول السلطة والانتخابات. يشير ذلك كله إلى عدم فهم، وثقافة شفوية (مع الاعتذار مسبقاً عن “فجاجة” هذا الحكم). وبالتالي، تكوين صورة لا علاقة لها بالواقع، أصلاً، وليس بمنطق التحليل فقط. حين ننتقل إلى الحالة السورية، تبدو الأمور أكثر تشوشاً، وينكشف غياب “الأدوات المعرفية”، ويظهر “الفهم المقلوب”. يقول حسين “إن ربط الثورات بالعامل الاقتصادي يخدم الأنظمة الاستبدادية، لأنه يغيب حقيقة هذه الأنظمة والدمار الذي ألحقته في بنية الدولة والمجتمع، ومحاولتها الهيمنة علة كينونة الإنسان ومستقبله”، كيف ذلك؟ طبعاً يريد أن يشير إلى الاستبداد، من دون أن يحدد ما هو الدمار الذي أحدثته النظم، وما علاقته بالثورات؟ لكن، كيف أغيب حقيقة الأنظمة؟ تحليلي واضح أنها نظم استبدادية شمولية. لكن، ليس “لوجه الله” بل لنهب المجتمع، وهدف كل الهيمنة التي تفرضها “على كينونة الإنسان” نهبه، وليس نتيجة “مرض نفسي” أو “عقدة أزلية”. هذا بالضبط ما يجعل الأساس الاقتصادي موضحاً سبب تشكل النظم بهذا التكوين الشمولي الاستبدادي. والنهب هو الذي أفضى إلى إفقار أغلبية الشعب من العمال والفلاحين والفئات الوسطى، وهمّش بعض الفئات البرجوازية. السؤال: لماذا تركز “النخب” على الاستبداد، وتتجاهل السبب الجوهري في وجوده؟
في سورية، كان “سوء فهم” الوضع يجعل هذه النخب تخاف من أن تلجأ السلطة إلى زيادة الأجور فتنهي الثورة. لهذا، أصبحت تصاب بعصاب، حين الإشارة إلى الاقتصاد، لكنها كذلك تحمل حلاً ليبرالياً الذي هو حل السلطة نفسها. لهذا، لا تريد الإشارة إلى الاقتصاد لإخفاء حلها. هذا يجعلها تركز على المستوى السياسي. وفي ردي على الصديق علي العبدالله، أشرت إلى الوضع الاقتصادي السوري قبل الثورة، حيث ظهر أن نسبة غالبة تعيش حالة بطالة وفقر شديد وتهميش. لكن، لا تهم كل تلك الأرقام شخصاً يريد إقناع الذات بأن الثورة نتيجة الاستبداد، وأن الهدف هو إزالة النظام الاستبدادي فقط من دون التفات إلى الاقتصاد، أو تغيير في النمط الاقتصادي الليبرالي الريعي الذي يحكم سورية (وكل البلدان العربية، وأطراف العالم). لهذا، تصبح الإشارة إلى الوضع الاقتصادي “ترفاً فكرياً”، و”مسبقات نظرية”. مع الأسف، لا ماركس ولا لينين أشار إلى أن نسبة البطالة في سورية قبيل الثورة هي 30- 33%، ولا قال إن الحد الأدنى للأجور هو خُمس ما يجب أن يكون، لكنني أشرت إلى ذلك، ولم أعتمد على صموئيل هنتغتون. أخيراً، يضع الأستاذ حسين عبد العزيز ربطي الحرية بالليبرالية في سياق مقلوب. لهذا، يشير إلى واقع الثورة الذي أعرفه، وتناولته كثيراً، فما كتبته أن “النخب” تربط الحرية بالليبرالية وليس الثورة، أي الشعب الذي تظاهر وما زال يقاتل. وهذا الربط ناتج عن أنها لا تختلف مع السلطة في لبرلة الاقتصاد، بل في شكل السلطة، أو في من يحكم فقط. وهذا هو جذر هجومها على كل تناول للاقتصاد.
العربي الجديد _ وطن اف ام