تاهت بوصلة الكتاب والساسة والمحللين، ونسوا جميعاً أن الخطر الأكبر الذي يهدد الأمة كلها هو كيان العدو الإسرائيلي، وليس داعش أو حالش أو فاحش. أصل المرض إسرائيل، وما بقي عوارض له فقط، كالحمى. مسألة “التطرف الإسلامي” تشغل بالي كثيرا، كما تشغل بال كثيرين.
ولا يفيد أن نقول إنه ليس لدينا تطرف في الإسلام، ففي نصوصه المفتوحة مساحة واسعة للتأويل، واستيلاد رؤى ومبادئ قد تجعل بعضنا يتباهى بأن ديننا “إرهابي”، ولا أسهل من أن يسوق هؤلاء آية “ترهبون به عدو الله وعدوكم”، للتدليل على صحة هذا الزعم السطحي.
الأصلح والأنفع، هنا، أن ننبش في أسباب “التطرف” والإرهاب إن وجد، تخيلوا: من كان يصدق قبل عشرين سنة، مثلاً، أن يُحاكم شخص، لأنه خطط لمهاجمة هدف لـ “العدو”، ويُحكم بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة؟ مثل هذه الأخبار “اعتيادية”، اليوم، في الأردن الذي دخل في معاهدة “سلام” مع إسرائيل، و”العدو” لم يعد يحمل هذه الصفة، و”القانون” يعتبره “جاراً” علينا “الاحتفاء” به إن زارنا سائحاً، علماً أن يدي هذا السائح يمكن أن تكونا ملوثتين بدم أحد جنودنا أو نسائنا أو أطفالنا، ويمكن أن يكون قد أخذ إجازة للتو من خدمة عسكرية قذرة في جنوب لبنان أو القدس، أو جنين، وجاء للاستجمام في بلادنا. الصورة، اليوم، متشابكة حد الرعب.
بالنسبة لهم، أعني الشباب الإسلامي المتحمس، يرون هذه المفارقات، وتتفاعل في نفوسهم، ويقرأون في القرآن الكريم، وآيات الجهاد وغزوات المسلمين، وفقه الجهاد، ويحتارون: من يسمعون؟ ومن يتبعون؟ قليل من التفاعل والشحن الديني، وقليل من القمع، مع “رشة” قرف وفقر وبطالة، وصور قتلى عرب ومسلمين، وأرض محتلة تبتلع، ومشاهد إذلال لنساء وأطفال على الحواجز العسكرية، والنتيجة: تطرف كامل الدسم. الضد ينتج ضده، لن تجد “القاعدة” أو “داعش” بضاعة تبيعها في أوساط الشباب الإسلامي، لو لم يكن ثمة إرهاب أميركي وإسرائيلي، موغل في الإيلام والقهر، كفوا أيديكم، أيها الإرهابيون الأقوياء، تعينوننا على مواجهة “متطرفينا” و”إرهابيينا” الضعفاء الذين لا يجدون ما يدافعون به عن أنفسهم غير لحمهم وعظمهم، هؤلاء ليسوا مجانين، ولا قتلة، ولا يائسين، هؤلاء حانقون حد الموت، مع أنهم يحبون الحياة والتمتع بها.
هذه ليست تبريرات لجملة تصرفات تسيء للإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء، وتلطخ حياتنا بسمعة كريهة جداً، إنها محاولة لتفكيك الظاهرة، وإعادة تسمية الأشياء بمسمياتها. هؤلاء الذين يسرقون البسمة من عيون الأطفال هم صناع “الإرهاب”، وهم الذين يحرضون حتى المحايدين على الجنون، وارتكاب أفعال خارجة عن كل إنسانية وعرف وأخلاق.
من حيث المبدأ، أمقت كل من يلجأ، في حل خلافه مع أخيه، إلى الطخ والعنف والجنون، أعارض أي عنف يستعمل ما لم يكن ضد عدو بيّن العداء، ولا يحتاج إلى تأويل، ابتداء من العنف الأسري، مروراً بنزاعات الجامعات، وصولاً إلى الحروب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد، وانتهاء بسرقة صناديق الاقتراع، ورمي نتائجها إلى صناديق الزبالة. ولكن، ما حيلتنا، نحن العرب والمسلمين، ونحن ضحايا الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه إسرائيل، كمشروع استعماري، يجب أن يبقى متفوقاً على جميع جيرانه، مؤدياً “واجبه” في إنهاك دول المنطقة، ومشاغلة أي مشروع نهضوي، يستهدف التمرد على قيود الاستعمار الحديث، الذي يبدو أنه غير مرئي، لكنه، في الحقيقة، يحمل هدف الاستعمار القديم نفسه، ولكن، بأدوات جديدة. كل الأحداث التي تشهدها المنطقة تدل على أن ثمة ضابط إيقاع، يربط أي تطور أو حدث بمصلحة إسرائيل، وضمان استمرارها متفوقة على جميع دولنا العربية، وما الزلزال الذي ضربها في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي إلا المثال الأوضح على ما نقول، إذ استُنفرت كل قوى العالم لإجهاض هذه الثورات بأي ثمن، لأنها فتحت كوة من أمل، لخلاص الأمة من هيمنة إسرائيل، ومن وراءها، وهددت الأنظمة المتحالفة معها، سراً أو علانية.
في نهاية السنة العبرية، نشرت صحيفة معاريف على موقعها الإلكتروني تقريراً حول ما أسمتها خريطة المخاطر التي تهدد “إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط، في ظل الأحداث التي تشهدها المنطقة من تغييرات متسارعة، ربما تتأثر بها “إسرائيل” سلباً، على مدار العام المقبل، وأكثر ما لفت نظري في تقويمات الصحيفة أن الجيش المصري، على الرغم من كل ما حدث، لا يزال الوحيد القادر على مواجهة “إسرائيل” ميدانياً، بينما تشكل كل من إيران وسورية وحزب الله والقاعدة مصادر “قلق” تهدد الأمن الإسرائيلي، وبحسب التقديرات الصهيونية، فإن الجيش المصري هو الوحيد، في المنطقة، القادر على مواجهة الجيش الإسرائيلي في ميادين القتال. ولم تؤثر الهزات السياسية التي عصفت بمصر، في العامين الماضيين، على البنية الأساسية له، على الرغم من أن الجهات الأمنية في “إسرائيل” ومصر تحرصان، باستمرار، على توضيح أن العلاقات بين الجيشين جيدة، وأن كلا الطرفين يعملان، من خلال مصالح متشابهة، في محاربة منظماتٍ بات الطرفان يسميانها منظمات “الإرهاب”.
الخوف الذي ينتابنا جميعاً، في ظل الظروف الحالية، أن تؤثر تلك المعركة المفتعلة مع ما يسمى “الإرهاب الإسلاموي” على عقيدة هذا الجيش، وتدخله في نفق مخيف من الانشغال بمعارك جانبية، حلها أساساً سياسي، وليس أمنياً، (إلا إذا كان الهدف أصلاً تدمير مصر وجيشها!). ما يجري اليوم في سيناء، وبعض مناطق الصعيد، وأنحاء مصر كافة، أشبه ما يكون بنسخة مصرية خفيفة من الحرب الأهلية التي استمرت في الجزائر نحو عشر سنوات (العشْرية السوداء)، وحصدت مئات آلاف الأرواح، ثم عاد جميع الأطراف إلى خيار المصالحة الوطنية الحتمي، وكان حرياً بهم أن يلجأوا إلى هذا الخيار، ويوفرون على البلد إهدار كل تلك الأرواح، ناهيك عن كلفتها الاقتصادية والاجتماعية المدمرة.
لا تحتاج مصر عشرية سوداء، بل عشرية بيضاء من التصالح مع الذات، وتغليب خيار الوحدة والحوار والتفاهم، وإعادة بناء ما دمرته عصور الحكم العسكري الغابرة، فالحفاظ على مصر وجيشها، ليس مصلحة وطنية مصرية فقط، بل مصلحة قومية عربية أيضاً، ولن يكون من مصلحة أحد، باستثناء إسرائيل، أن يغوص جيش مصر في وحل حرب مفتعلة، اسمها الحرب على إرهاب “مصنوع” خدمة لمصلحة إسرائيل، منبع الإرهاب، ومستنقع التآمر على الأمة والبشرية جمعاء. داعش واحدة من تجليات المرض، وليست المرض نفسه. ومن أسفٍ، إن صناع القرار العرب يعرفون هذه الحقيقة، لكنهم ينحرفون بتصرفاتهم عنها، خدمة لمصالحهم الذاتية، و”استقرار” أنظمتهم. وفي الأثناء، يهدرون طاقات الأمة، ويشغلونها بحروب بينية، ويدوسون رؤوس شعوبهم بالبساطير.
العربي الجديد _ وطن اف ام