الصدفة وحدها هي التي جعلت منتصف ليل 14 ـ 15 آذار/مارس نقطة فاصلة جامعة بين تاريخ رامز لمقصد اللبنانيين من التحرّر (14 آذار/مارس 2005) وتاريخ رامز لمقصد السوريين التحرّري (15 آذار/مارس 2011). يومان تتابع ذكراهما، بفارق ست سنوات، ويؤرّخ كل منهما، كما لمسيرة الحرّية كذا للانقسام، في بلده، ويشترك كلاهما في الانعطافة الحادّة بالعلاقة بين البلدين أو الشعبين، اللبناني والسوريّ.
ليس الانقسام اللبناني على خلفية 14 آذار/مارس 2005 كالانقسام السوري طبعاً. فهو نشأ على خلفية حدث مصمّم أخبث تصميم: اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتطوّر بانفجار غضبين متداخلين، في شهرهما الاول، على خلفية هذا الاغتيال، غضب سنٰي لمقتل زعيم استثنائي وشعبي ومعتدل للطائفة، وغضب إسلامي مسيحي مشترك، وتحديداً سني درزي مسيحي، على خلفية الاقتناع بأنّ الخيار وقتها هو بين تقهقر عقارب الساعة إلى فترة تسلّط وبطش كانت الوصاية السورية قد أقلعت جزئياً عنهما في السنوات السابقة لمقتل الحريري، أو بين الدفع بمسيرة الانعتاق من الوصاية السورية إلى الأمام، بزخم شعبي بات يجاوز الرقعة المسيحية، ولا يكتفي بـ«اعادة انتشار» خاملة اقتضاها اتفاق الطائف.
ولئن فجّرت الجريمة الإرهابية غضبين متداخلين، فانها لم تلبث أن أوجدت ساحتين متقابلتين.
ساحة «حزب الله» وحلفاؤه. وهذه أخفقت في المبارزة العددية، لأن جماهير السنة والمسيحيين والدروز مجتمعين كسبت الجولة في ذلك. لكن معادلة موضوعية ظلٰت تسند منطق هذا الفريق الذي يقوده «حزب الله»: وهو أنه لا يمكن صناعة إجماع وطني إسلامي مسيحي تكون الطائفة الشيعية خارجه. وندّ ذاتي لهذه المعادلة الموضوعية: أنّ التفوق العسكري والتنظيمي والتعبوي لـ«حزب الله» عدا بقية الفرقاء ليس من النوع الذي يتيح انبثاق أي كيانية لبنانية جديدة، حتى لو كانت – فرضاً – شيعية التمركز، بل أنّ في قوّة «حزب الله» عناصر نابذة لهذه الكيانية، وبالتالي لمسعاه التلقائي، بوصفه الكتلة الأكثر تنظيماً من اللبنانيين، نحو الهيمنة.
شيئاً فشيئاً تتطّور ذلك إلى جملة مفارقات: لا إجماع وطنيا ممكنا من دون «حزب الله»، أي لا 14 آذار/مارس بعد 14 آذار/مارس 2005، ولا إجماع وطنيا ممكنا مع «حزب الله»، أي لا تحالف رباعيا ممكنا بعد التحالف الرباعي، ولا إجماع وطنيا ممكنا ضد «حزب الله»، بعد نجاح الحزب في «التفاهم» بنص مع العماد ميشال عون في السادس من شباط/فبراير2006.
في سوريا، انفجر المجتمع بنتيجة متوالية الأحداث منذ 15 آذار/مارس 2011؛ لكن في أصل كلّ هذا لم يكن ثمّة «حدثا مؤسّسا». بدت الثورة وكأنها من دون سبب مباشر. فيض من المسببات بلا سبب مباشر. الشعوب العربية الأخرى ثارت، والشعب السوري أخذ يقتدي بها. ما عابه أدونيس بالنتيجة على ثورة «تخرج من المساجد» يجد عنصره في هذا: أنها قد تكون نشبت، بشرارة اشتعلت بدءاً من درعا – سردية الثورة، أو بمؤامرة بحسب سردية النظام، لكنها دون سبب مباشر: لا هزيمة عسكرية جديدة، لا كارثة اقتصادية جديدة. كلّ الدعاية المضادة للثورة بقيت في هذه الخانة: هذا نظام «وطني» فهل يعقل أن تثوروا عليه من دون سبب واضح ومباشر؟ وهذا نظام له «أهل» مصيرهم معلّق بمصيره، فهل يعقل أن تثوروا على «أهل النظام»؟
الثورة السورية هي بالفعل كذلك، في بعد من أبعادها: «ثورة بلا سبب»، بلا سبب قصدي، ومباشر، ومحدّد. في لبنان يمكن القول إنه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد تراكم استقلالي النزعة عمره سنوات، طفح الكيل. أما في سوريا فليس بالإمكان الحديث عن تراكم من هذا النوع. بين مجازر حماة والثورة السورية عقود. وفي الموقف من لبنان وحركاته الاستقلالية عن سوريا كان السوريون على الأغلب أقرب إلى وجهة نظر النظام. وفي الموقف من «حزب الله» أقرب إليه من 14 آذار/مارس.
ومع ذلك، انتفضت الأنسجة الأهلية لا سيما الريفية من الأكثرية السنية على نظام مصبوغ بعصبية أهلية ومناطقية علوية. في المعطى العام، لا عجب. أكثرية لها محددات إثنية معينة تصل إلى لحظة لا تصبر فيه على تسلط له سمات إثنية أقلوية معينة. لكن في حيز السبب المباشر، كل العجب: ثورة بلا «سبب». كل القمع الدموي للنظام يزيّن لنفسه أنه مجاز أخلاقياً كونها كذلك. وكل خطاب الثورة يعمل على إنكار أنها «بلا سبب». في حين أنٰ الثورية الصميمة للثورة السورية تكمن هنا.
مدخل لتبيان ذلك المقارنة مجدداً بين المسيرتين التحرريتين اللبنانية والسورية من ربقة آل الأسد. هناك طبعاً البديهيات الكيانية، أي كل ما يتفرّع من كونه نظاماً سورياً، يناهض حرية السوريين من حيث هو استبداد، ويناهض حرية اللبنانيين من حيث هو وصاية، وصاية باستبداد أقل، إذ حافظ لبنان على ديموقراطيته الطائفية في عزّ الوصاية، وظلم أكبر، إذ هي خرق فاضح للمبدأ الذي تقوم عليه الدول الوطنية الحديثة.
لكن، بالتفاعل مع هذا الفارق «البديهي»، ثمة فارق نطمسه. الفارق الطبقي بين التحررين اللبناني والسوري من المعادلة الأسدية. في لبنان، تمّ ذلك بشروط «الطبقة السياسية» اللبنانية، بل بشروط البرجوازية اللبنانية، التي لا يكابر أحد على طابعها البعيد عن فكرة الاستقلالية الاقتصادية للبلد، والشروط الإنتاجية لذلك، وعن الحد الأدنى من التعاقد الاجتماعي، «كي لا يهرب المستثمر».
سواء بحثناها كطبقة سياسية أو اجتماعية، فقد وصلت هذه الطبقة إلى لحظة لم تعد فيها تحتمل البقاء تحت نير الوصاية. قادت حركة التحرر من الوصاية بشروطها، بعلاقاتها، بنظرتها، بهواجسها، لكن أيضاً بحاجتها إلى عدم تضييع نفسها في غمار حرب أهلية. كانت الطبقات الشعبية أيضاً قد ضاقت ذرعاً من الوصاية، ومشاركتها كانت أساسية لتضخم الحشد الاستقلالي يوم 14 آذار/مارس، لكن هذه المشاركة ظلت ضمن شروط الطبقة السياسية، واجتماعياً ضمن شروط البرجوازية اللبنانية، غير المعروف عنها، لا أنها إنتاجية، ولا أنها ثورية، ولا أنها تحديثية تريد الإطاحة بالنظام الطائفي، بل معروف عنها العكس. الوصاية السورية أخضعت هذه البرجوازية اللبنانية لعقود لشرّها، لكن هذه البرجوازية تمرّدت في آخر الأمر.
كان ثمة ما لا يُطاق. لو لم يثر البلد في شتاء 2005 كان ثمة بالفعل خطر وجودي على المجتمع والكيان اللبناني ولو بعد حين. في الوقت نفسه، لا يمكن أن تقود هذه البرجوازية حركة تحرّر من ربقة الوصاية السورية كما لو كانت هذه حركة تحرر وطني. وهم كبير أن تحاول استنهاض الهمم عساها أن تصير كذلك.
الثورة السورية كانت في المقابل ولم تزل ثورة المناطق الريفية، ثورة فلاحين، ضد نظام يكرم الفلاحين أيديولوجياً، ليعني بهم، «الفلاح المقاتل»، الذي يجد كماله في شخص حافظ الأسد. ثورة فلاحين ضد نظام يجعل من «الفلاح» عقيدته، ومن التفاوت السياسي والاقتصادي والهوياتي بين السوريين بنيته. البرجوازية المدينية السورية احتفظت بضغائنها القديمة ضد النظام لوقت آخر، لكنها تململت ونأت عن نفسها بعد أسابيع قليلة عن ثورة استمرت، لا يستطيع النظام قمعها ولا تستطيع الإطاحة به، ثورة فلاحين بشعارات لا – فلاحية، أما ليبرالية وأما إسلاموية أو مزيج، لا يكاد يحضر الأثر الفلاحي في الخطاب إلا من المؤثرات البعثية.
فارق طبقي كبير بين 14 آذار/مارس و15 آذار/مارس فارق طالما ظل السوريون واللبنانيون يكابرون عليه ظلّت الإرادوية حيناً، والثقافوية حيناً، تعرقل النفاذ إلى حيث التشخيص النافع لما تحقق ولما لم يتحقق ولما يعترض سبل التحقيق.
القدس العربي _ وطن اف ام