مقالات

إياد الجعفري : تحرير إدلب واختبار “النُصرة”

بُعيد تحرير مدينة إدلب، تقف جبهة “النُصرة” أمام اختبار مهم لمدى صدقية دعوى رموزها، بأنها قامت لـ “نُصرة أهل الشام” بما يخدم مصلحة أهل هذا البلد، حتى لو على حساب التنظيم الذي تنتمي إليه، تنظيم “القاعدة”، كما صرح أبو ماريا القحطاني، أحد أبرز قادة “النُصرة”، وذلك في تغريدات له على “تويتر”، مطلع الشهر الجاري.

هذا الاختبار لا يعني فريقاً من السوريين، سبق أن وضع “النُصرة” في سلّة “داعش”، معتبراً أن المَعين الآيديولوجي المشترك الذي يرتوي منه رموز التنظيمين كفيل بجعل “النُصرة” وجهاً آخر لـ “داعش”، ينتظر اللحظة التاريخية المناسبة ليكشف عن وجهه الحقيقي، كما فعل “داعش” سابقاً في الرقة.
ويستعين هذا الفريق من السوريين بتجربة الرقة المريرة، إذ تبدو معركة تحرير إدلب، للوهلة الأولى، تكراراً نوعياً لتجربة تحرير مدينة الرقة، في آذار من العام 2013، لتكون الرقة أول مركز محافظة يتم تحريره بالكامل من سيطرة النظام. وخلال سنة شهدت الكثير من الفوضى والتنافس بين الفصائل التي سيطرت على المدينة، تحولت حياة “الرقاويين” إلى جحيم زاد قصف طائرات النظام من ويلاته.
لكن، قبل أن تُنهي السنة الأولى من “تحرير الرقة” فصولها، تغيّر المشهد بصورة درامية، واستطاع تنظيم “الدولة الإسلامية” إحكام السيطرة على المدينة بعد حرب شرسة مع حلفاء الأمس، “النُصرة” و”أحرار الشام” و”الجبهة الإسلامية”.
اليوم، يدخل جيش “الفتح” إدلب، والعارفون يعلمون أنه مكون من قوتين رئيسيتين، “النُصرة” و”أحرار الشام”، فيما يبدو أن الفصائل الأخرى أقل وزناً وقوة، الأمر الذي أعاد لأذهان البعض كابوس تجربة الرقة، وسط توقعات بتكرار المشهد في إدلب قريباً.
وربما كانت خيبة بعض السوريين جراء رفض “النُصرة” التخلي عن تبعيتها لتنظيم “القاعدة”، منذ أسابيع، أحد العوامل الذي عزز قوة أصحاب الرأي الذي يجزم بأن “النُصرة” هي الوجه الآخر لـ “داعش”، وأنه يجب عدم الركون إليها، والتحالف معها. لكن في مقابل ما سبق، لا يبدو أن أحداً من الفاعلين على الأرض السورية، في ضفة المناوئين للأسد و”داعش”، في وارد الصدام مع “النُصرة”، بل على العكس.
ولا يبدو أن هناك أية مبررات موضوعية تدفع باتجاه الصدام مع الجبهة بعد، نظراً لكون الأخيرة لم تعلن، حتى الآن، إمارتها الإسلامية التي ترقبها الكثيرون. والأهم، أنها ضبطت نفسها وتجنبت الصدام مع باقي الفصائل الجهادية الكبرى في شمال سوريا، “أحرار الشام”، و”الجبهة الشامية”، حتى بعد دور الفصيلين الأخيرين في حماية “حركة حزم”، التي كانت “النُصرة” بصدد الإجهاز عليها منذ أسابيع.
وهكذا يبدو أن الفريق الأكبر من السوريين ما يزال يراهن على إمكانية استيعاب “النُصرة” في مشروع وطني يؤسس لسوريا جديدة تكون بديلة عن “سوريا الأسد”.
يضم هذا الفريق الكثير من المتعاطفين مع نهج “النُصرة” الذي أظهر مرونة كبيرة في التعامل مع السكان المحليين، ومع الفصائل المناطقية، في مساحات سيطرته. كما يضم هذا الفريق فصائل “السلفية الوطنية السورية”، بما فيها “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”، ناهيك عن الفصائل المحسوبة على الأخوان المسلمين.
بل ويضم هذا الفريق الكثير من المنظّرين، سواء من الإسلاميين المعتدلين، أو حتى من العلمانيين، ممن ينشطون في الخارج. لا داعي، في نظر هذا الفريق الكبير من السوريين، للصدام مع “النُصرة”، حتى الآن. وكما كان موقف معظم السوريين من تنظيم “الدولة الإسلامية” في بدايات تأسيسه، مرتبكاً ومنقسماً وميالاً أكثر للمصالحة والصبر، حتى عِيل الصبر مع التنظيم، لا يبدو أن موقف معظم السوريين، سواء من الفاعلين على الأرض، أو من المؤثرين إعلامياً وسياسياً ومالياً، سيكون مختلفاً تجاه “النُصرة”.
وفيما يرى البعض أن رمي الكرة في ملعب التنظيمات الجهادية، خاصة ذات البعد غير الوطني، كان من نتاجها أن نرى “داعش” تسرح وتمرح اليوم في ثلث سوريا، يرى آخرون أن ما يعتبره البعض سلبية، ما هو إلا نتاج الحالة الاستثنائية التي تعيشها الثورة السورية، والتي لا تملك حاضنتها الاجتماعية رفاهية تصفية التنظيمات التي لا تأتي على هوى مشروعها المثالي المُتخيل عن سوريا الجديدة في بدايات الحراك الثوري.
وهكذا، يرمي السوريون الكرة في ملعب “النُصرة”، على أمل أن تزيل الجبهة مخاوف الكثير منهم حيال تأسيس مشروع إقصائي خاص بها من قبيل “إمارة إسلامية”.
ويبدو أن “النُصرة” حتى الآن واعية لذلك، لكن اختبار إدلب سيؤكد أكثر ما إذا كانت “النُصرة” ستبقى على خريطة القوى المقبولة من غالبية السوريين، كفصيل مناصر للثورة السورية ضد بشار الأسد، أم ستنضم إلى خانة داعش تماماً، كفصيل إقصائي سلطوي لا يقل خطورة عن نظام الأسد نفسه. لماذا تعد إدلب اختباراً؟، ربما لأن تجارب “التحرير” السابقة أثبتت أنه كلما سيطرت الفصائل المناوئة لنظام الأسد على مساحات جغرافية جديدة، كلما ازداد إغراء الإقصاء والتفرد لدى قياداتها، على حساب المشروع الجامع لها، وهو قتال الأسد وحلفائه في سوريا.
فهل تنجح “النُصرة” في هذا الاختبار؟، أم ستنقلب فرحة تحرير إدلب إلى نكبة على السوريين تكرر تجربة الرقة المريرة؟… يبدو أن الكرة ما تزال في ملعب “النُصرة”، ويصعب حتى الساعة، الجزم، في أي اتجاه سترمي “النُصرة” كرتها للسوريين. لكن مؤشرات عديدة، بعضها نابع عن حسن الظن بالجبهة، تُوحي بأن قياداتها التي يغلب عليهم العنصر السوري، أكثر حكمة من تكرار تجربة داعش، وأكثر قدرة على استيعاب عقلية السوريين ومتطلبات المرحلة الراهنة في مواجهة نظام الأسد والظهير الإيراني الداعم له.

المدن _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى