مقالات

القدس العربي – تفكيك تركيا

قبل ما يقارب مئة عام، وعلى إثر الحرب العالمية الأولى كانت الجغرافيا السياسية التركية الحالية قد تحوّلت إلى أشلاء، فاحتلت فرنسا كيليكيا، واحتلت إيطاليا أنطاليا، وسيطرت بريطانيا وحلفاؤها على الدردنيل وإسطنبول، واحتل الجيش اليوناني مدينة أزمير وكانت مداولات الحلفاء قد توصلت إلى قرارات بتقسيمها بحيث تذهب معظم جزر بحر إيجة وتركيا الأوروبية لليونان التي ستتولى أيضا إدارة إزمير ومنطقة غرب الأناضول لخمس سنوات يجري بعدها استفتاء يؤدي لدمج المنطقة باليونان، وفي شرق الأناضول منح الحلفاء أرمينيا استقلالا ومُنحت كردستان حكما ذاتيا وأجبرت حكومة السلطان العثماني على توقيع وثيقة استسلام عرفت باسم معاهدة سيفر.

واجه الأتراك آنذاك مخطط إنهاء وجودهم كأمة بقوة مبتدئين ذلك بهزيمة الجيش التركي لوحدة عسكرية فرنسية في مدينة مرش (أو مرعش)، وخوضهم حرب وجود أو فناء إلى أن تمكنوا من صد الجيش اليوناني في أيلول/سبتمبر 1921، ونجاحهم لاحقاً في إجلاء البريطانيين عن إسطنبول وإلغاء معاهدة الاستسلام.

كان الدور الأعظم في قرار تفكيك تركيا يعود لبريطانيا، التي كان رئيس وزرائها آنذاك، دافيد لويد جورج، ووزير خارجيتها جيمس بلفور (الذي يعرفه الفلسطينيون بدوره بوعده بوطن قومي لليهود في فلسطين!)، الأكثر شراسة في دعم هذا الموقف، ولكنّ نجاح الأتراك في تجميع قواهم العسكرية وصدّ الهجوم اليونانيّ عليهم، ساهم في إنهاء قرار تفكيك تركيا وفي دخولها صيرورة تاريخية طويلة لعلنا نشهد الآن نهاياتها.

في المقابل أدّت الحرب العالمية الأولى إلى سيطرة الفرنسيين والبريطانيين على المشرق العربي ما أدى إلى زرع جذور أزمات سياسية هائلة ما زال العالم العربي يعاني منها، وفي صلبها، تحقيق وعد بلفور بالنكبة الفلسطينية، وتفكيك بلاد الشام واحتلال أغلب البلدان العربية.

تشهد تركيّا حالياً أزمة داخلية وإقليمية وعالمية كبرى تجعلها على مفترق طرق تاريخية، وهي تذكّر، في بعض نواحيها، بالأحوال التي نتجت خلال الحرب العالمية الأولى، فالدولة والأمة التركية تتعرّضان لضغوط داخلية هائلة تتمثّل في الحرب الدموية الدائرة مع «حزب العمال الكردستاني» (بي كي كي)، وكذلك من معركة مستجدة مع تنظيم «الدولة الإسلامية» ابتدأت عملياً مع تفجير سوروج قبل قرابة 3 أشهر، ومن مفاعيل الأزمة السورية المستفحلة ولاجئيها في تركيا الذين قاربوا المليونين.

وما يجعل الوضع أكثر خطورة بكثير من الضغط الانفجاري المتولّد من هذا الصراع الداخلي، هو الجار البحري الروسيّ، والذي كان موعوداً من الحلفاء في بداية الحرب العالمية الأولى (قبل قيام الثورة البلشفية عام 1971) بالحصة الأكبر من تركيا، والذي تحوّل مع تزايد وجوده الجوي والبحري والبرّي في سوريا، إلى تهديد استراتيجي كبير لتركيا، وأصبحت مقاتلاته تتحدّى علناً المقاتلات التركيّة.

وعلى عكس المتوقع من الحليف الأمريكي لتركيا، ومن الحلف الأطلسي «الناتو»، فقد شهدنا مؤخراً، وبعد التهديدات الروسية لتركيا، خروج بطاريات صواريخ باتريوت الأمريكية من الأراضي التركية، في خطوة واضحة الدلالة، لا تستطيع التصريحات البلاغية الأمريكية والأوروبية المنذرة والمستنكرة لخطوات روسيا أن تقلب معناها، فالسيف – كما يقول الشاعر العربي أبو تمام – أصدق أنباء من الكتب!

والأكثر دلالة من ذلك هو قبول واشنطن (وتل أبيب) «التنسيق» مع روسيا حول سوريا، وهو ما يعني اعترافاً وتشريعاً لدورها السوريّ، وهو الأمر الذي رفضته تركيا، واستلزم، لإقناعها على ما يبدو، سحب «باتريوت»، وافتعال حوادث أخرى.

وتأتي المجزرة الرهيبة التي حصلت في أنقرة لتزيد حجم الضربات على رأس الحكومة التركية، بما يكفي، ربما، لـ»إقناعها» بالتزام أجندة «التنسيق» الأمريكية – الروسية – الإسرائيلية، التي تقترب من شروط الإذعان التي رفعها الحلفاء بوجه السلطنة العثمانية قبل قرابة قرن حين تكالبت دول العالم على السعي لتفكيكها.

فهل يبدأ ذلك بتهشيم قوة حزب «العدالة والتنمية»، وهو أكبر الأحزاب التركية والأقدر على تقديم نموذج بلد إسلامي ناجح اقتصاديا وسياسيا وعسكريا؟
… وهل هناك مؤامرة ضد تركيا تحاول استكمال ما فشل لويد جورج وبلفور (والحلفاء الغربيون) من القيام به قبل قرن؟

المصدر : القدس العربي 

زر الذهاب إلى الأعلى