مقالات

غاريث بايلي – سوريا.. سباق فيينا الصعب

مساء الجمعة 13 نوفمبر/تشرين الثاني، نفّذ قتلة من داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) هجمات في عدة مواقع في باريس، وحصدوا بذلك أرواحا بريئة في مسعاهم لتنفيذ أجندتهم القائمة على الكراهية وبث بذور الشقاق والخوف من الآخر. وقد جاءت تلك الهجمات في أعقاب تفجيرات لا تقل إجراما نفذت في بيروت وبغداد وأنقرة ومدينة سوروتش التركية، وعدة أماكن أخرى مع الأسف.

انطلاقا من قواعدهما في سوريا، تلحق داعش ونظام بشار الأسد الدمار والبؤس بالشعب السوري، ويشيعان معا الإرهاب ويتسببان بزعزعة الاستقرار في محيط أبعد بكثير من نطاق الحدود السورية.

إن داعش والأسد وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يستخدم الإجرام والترويع لتعزيز قبضتيهما على الحكم. وفيما كان تنظيم داعش يضرب ضربته في باريس، كانت قوات نظام الأسد تمطر الشعب السوري بالقنابل المتفجرة. وكما هو حال داعش، فإن الأسد لا يبالي بمن يكون أولئك الذين يقصفهم طالما أنه باق في سدة الحكم.

تلك مقدمة مطوّلة يمكن إيجازها بالقول إن على المجتمع الدولي أن يساعد الشعب السوري لإنقاذ سوريا، ولا بد من فعل ذلك الآن.

وفعلا تعهد المجتمع الدولي بتقديم المساعدة المنشودة في اجتماع عقد صبيحة السبت 14 نوفمبر/تشرين الثاني في العاصمة النمساوية فيينا. ضم ذلك الاجتماع وزراء وممثلين عن سبع عشرة دولة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، اجتمعوا للاتفاق على طريقة لإنقاذ سوريا من الجحيم الذي باتت تمثله اليوم. وقد كنت أحد الذين حظوا بالمشاركة في ذلك اللقاء.

كان ذلك اللقاء الثاني للمجتمع الدولي في فيينا، وهذه المرة أسّس مجموعة الدعم الدولية لسوريا. اللقاء الأول عُقد قبل أسبوعين، وعبر من خلاله وزير الخارجية الأميركي جون كيري بوضوح أن الوضع في سوريا قد أصبح ملحا ولا يحتمل التأجيل.

وهو الآن يوضح بأن الهجمات التي نفذتها داعش في باريس، وقبلها بيومين في بيروت، تؤكد أن الحاجة العاجلة لمعالجة الوضع في سوريا باتت أقوى. ينبغي علينا أن نشحذ المبادئ التي تم الاتفاق عليها في اجتماع 30 أكتوبر/تشرين الأول، وأن نجعلها أكثر إحكاما ونحولها إلى خطة عمل.

وقد تمخض النقاش الذي استمر طيلة اليوم عن تلك الخطة المتمثلة بورقة فيينا الثانية، وكذلك عن اتفاق لتأسيس مجموعة الدعم الدولية لسوريا والتي ستتولى الانطلاق بهذه الخطة.

لكن الكمال غاية لا تدرك، وقد سارع المنتقدون لإيجاد الثقوب والمثالب في الخطة، وسوف يستمرون في محاولاتهم لتمزيقها (فهذا ديدنهم في نهاية المطاف). ولكنني أعتقد أن الخطة جيدة للأسباب التالية:

أولا، لأنها تلتزم بتحقيق الانتقال في سوريا. والانتقال هنا ليس مصطلحا ضبابيا مثل “التحول” أو “التطور” بل انتقال. وأقول بوضوح: انتقال من نظام الأسد وطغمته الحاكمة إلى شيء آخر، شيء أفضل، كخطوة أولى إلى نظام حكم ذي مصداقية، جامع شامل وغير طائفي. (ونعم، حكم الأسد طائفي يتدثر بعباءة العلمانية).

ثانيا، مجموعة الدعم التزمت بجدول زمني واضح: تاريخ محدد لبدء مفاوضات رسمية، ليس حوارا، ولا طرح أفكار، بل مفاوضات تُعقد بحلول الأول من يناير/كانون الثاني بين المعارضة و”الحكومة” (علامة التنصيص من الكاتب)، وإنشاء صيغة حكم خلال ستة أشهر، ويعقبها صياغة دستور وترتيبات انتخابية، وإجراء انتخابات بعد ثمانية عشر شهرا أو، لكي يبدو الأمر واقعيا أكثر، في منتصف عام 2017.

ثالثا، تحمل الخطة أملا حقيقيا للمدنيين السوريين، حيث تتضمن تدابير لبناء الثقة تجعل العملية السياسية ممكنة وتمهد الطريق لوقف إطلاق النار في أنحاء سوريا كلها، وترافقها ضغوط لإنهاء العنف العشوائي ضد الشعب (نعم، نظام الأسد هو الضالع الأساسي فيه).

ويجدر القول إن الخطة واقعية في أهدافها. فلا يمكن تصور وقف إطلاق النار دون ربطه بعملية سياسية ذات مصداقية، فالثقة لا تزال غائبة لحد الآن. وتدابير بناء الثقة هي التي سوف تساعد في تحقيق وقف إطلاق النار.

رابعا، هناك عزم أكيد واضح على دعم المعارضة السورية كي تتمكن من الوقوف كالند للند ومرفوعة الرأس في مواجهة النظام بالمفاوضات. وإحقاقا للحق، فإن الدول التي تقف إلى جانب الشعب السوري تعترف بالائتلاف الوطني السوري بأنه “قلب المعارضة وقائدها”.

ويعرف الائتلاف ما ينبغي عليه فعله لكي يتواصل مع كافة الفصائل السورية والشعب للوصول إلى رؤية وأهداف موحدة وموقف تفاوضي متناغم بحلول يناير/كانون الثاني القادم. ونحن نمد لهم يد العون في ذلك وسوف نبقى إلى جانبهم. ذلك كان مضمون رسالة وزير الخارجية البريطاني خلال لقائه مع رئيس الائتلاف خالد خوجة أثناء زيارته في وقت سابق من الشهر الجاري.

خامسا، سوف تساهم مجموعة الدعم الدولية في التوصل إلى تفاهم مشترك حول تحديد من هم الإرهابيون في سوريا. تنظيم داعش هو أحد تلك الجماعات الإرهابية. وهناك أيضا جبهة النصرة الموالية للقاعدة. وسوف نستخدم ذلك التفاهم لممارسة المزيد من الضغوط على روسيا، بل وسنمارس ذلك الضغط فعلا، لكي تتوقف عن قصف أولئك الذين يدافعون عن الشعب السوري. وأفعال روسيا هي التي سوف تحكم على مدى التزامها بالعملية السياسية.

سوف ينصب تركيزي على نحو أكبر على الأطراف التي لديها الاستعداد للالتزام بالعملية السياسية الجديدة وبالقيم التي يتطلع إليها غالبية السوريين: سوريا واحدة بدون الأسد، غير مقسمة، تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها، ولديها حكومة جامعة تسمح بالمشاركة للجميع على قدم المساواة، وتساوي بالحقوق والواجبات وتوفير الحماية للجميع، وحيث تكون التعددية السياسية وحكم القانون مبادئ جوهرية وليست مجرد “مسائل ثانوية من المحبب أن تتوفر”.

سادسا، سوف يقدم مجلس الأمن الدعم لكل ذلك. حيث سوف يعطي صلاحيات كافية للجنة الأمم المتحدة لمراقبة وقف إطلاق النار ويطبقها. كما سيدعم العملية الانتقالية. وستكون له الكلمة الأخيرة في تصنيف الجماعات الإرهابية التي لم يتم تصنيفها بعد.

أود أن أتطرق هنا مباشرة إلى نقطتين أساسيتين:
لم يرد اسم الأسد في أي مكان في الورقة. وبالنظر إلى تشكيل المجتمعين حول الطاولة فإن ذلك ليس مستغربا. لكن يبدو جليا أن العملية الانتقالية التي تمت صياغتها في الخطة الأخيرة لا مكان للأسد فيها. فقد أقصى نفسه بنفسه عن مستقبل سوريا بحكمه الوحشي واستخدامه الغازات السامة وقصفه للمدنيين وتعذيبهم حتى الموت. وبذلك فإن المفاوضات الرسمية لن يكون لها سوى موقف واحد بهذا الشأن.

وللمرة الثانية، لم يكن للسوريين أي حضور في غرفة الاجتماع. يمكنني تصور مقدار الإحباط الذي يشعرون به حين يرون الآخرين يضعون لهم خطة حول مستقبل بلدهم. ولكن السوريين يعلمون أكثر من سواهم لماذا جاء اجتماع فيينا بهذه الصيغة، إذ أن المنطقة والمجتمع الدولي أدركا الحاجة لصياغة تصورهما لكيفية إنهاء الصراع في سوريا، والذي هو حرب بالوكالة بقدر ما هو حرب أهلية. وما نحتاج أن نركز عليه الآن هو عودة السوريين ليتولوا بثبات زمام مصيرهم بأنفسهم، ودور مجموعة الدعم هو مساندتهم في ذلك وليس وضع العقبات أمامهم.
إذن هذا هو نص الخطة، فما الخطوة التالية؟
أولا، نحن بحاجة كمجموعة دعم لإبقاء هذه العملية حية. ولعل أهم مهمة تواجهنا هي دعم المعارضة لمساعدتها للاستعداد للمفاوضات القادمة.

ثانيا، سوف يظل السوريون بحاجة إلى مساعدتنا، وبشكل فوري. إن المملكة المتحدة ثاني أكبر دولة مانحة لسوريا (بعد الولايات المتحدة). ومساهماتنا الإنسانية ضخمة، كما أننا نقدم دعما أوسع لمساندة الأطراف السورية المعتدلة التي تعمل لخدمة مجتمعها ولتحقيق انتقال حقيقي.

ثالثا، لا بد لنا أن نكون واقعيين بثبات فيما تتطلع عقولنا وأفئدتنا إلى تحقيق عملية انتقال نحو مستقبل أفضل. فالنظام والداعمون له يواصلون اعتداءاتهم الوحشية على السوريين. وجاء التدخل العسكري الروسي ليزيد الصراع تعقيدا في سوريا، ويجعل التسوية السياسية أبعد منالا، حيث تزعم روسيا أنها تهاجم داعش ولكنها تستهدف أساسا المعارضة السورية المسلحة.

وبالتالي، بينما تحقق عملية فيينا تقدما، سوف نساند المعارضة، ونسلط الضوء على الضربات العسكرية الروسية ضد جماعات غير داعش، وعلى وحشية الأسد، ودعم مساعي المبعوث الخاص للأمم المتحدة دي ميستورا وفريقه رغم إدراكنا أن تلك مهمة شاقة.

عندما رجعت إلى منزلي من فيينا، وجدت شارة “عضو وفد – فيينا” في قاع حقيبتي، فلم أرمها بل احتفظت بها في مكان آمن لأنني أريد إخراجها في السنوات المقبلة لكي أقول لنفسي “كنت موجودا هناك عندما تمكنا أخيرا من إطلاق خطة ساهمت في إنقاذ سوريا”. إذا دعونا نتمسك ببعض الأمل المقترن بجرعة سخية من الواقعية لنضمن بأن الأسد لن يفلت من العقاب عن جرائمه.

*غاريث بايلي : المبعوث البريطاني إلى سورية 

المصدر : الجزيرة نت 

زر الذهاب إلى الأعلى