لم يول متابعو الشأن السوري، إلى اليوم، ما يكفي من اهتمام للتفاهم العسكري الروسي /الإسرائيلي، الذي انبثقت عنه مؤسسة رسمية لدى الأركان العامة لجيشيهما، اعتمدها الطرفان لتنسيق عملياتهما وتقسيم العمل بينهما، عقب زيارة رئيس وزراء إسرائيل إلى موسكو، بعد أيام قليلة من إرسال قوات روسية لغزو سورية.
ويرجح أن يكون قد أنجز خلالها تفاهم على أسس سياسية، تؤطر تعاون جيشي الجانبين، بما أن تعاوناً على هذا القدر من الأهمية بين قوتين عسكريتين، تتداخل طائراتهما وتتقاطع في المجال الجوي السوري، لن ينجح من دون تفاهمات سياسية، تنهض على أسس واضحة، تؤطر تعاونهما، وتتحاشى ما فيه من مزالق ومخاطر.
ترتسم في آفاق منطقتنا عموماً، ومشرقنا خصوصاً، معالم تحالفات دولية/ إقليمية من طابع يغاير كل ما عرفناه منها، ركيزتها تحالف روسي/ إسرائيلي، سيتعين به وضع عربي/ دولي، تبدو ملامحه الأولى من خلال العلاقة التي انعقدت بين البلدين، بصدد تنسيق جهودهما المشتركة في ما يسميانه “الحرب ضد الإرهاب”، وبلوغ قدر من تناغم مصالحهما، يصلح لأن تبني عليه علاقات، هي خطوة لا بد منها لبناء تحالف مديد، قد يشكل ضرباً من مركزٍ يدور في فلكه محيط مجاور، عربي أساساً، سيكون دوره مهماً في تحديد العلاقات العربية/ العربية، وعلاقات الإقليم والدول مع بلدان عربية بعينها، هي تلك المجاورة لإسرائيل، مثل سورية والأردن ولبنان، التي تجد نفسها مكرهةً أكثر فأكثر على أن ترى وترسم سياساتها في ضوء التفاهم الروسي/ الإسرائيلي، وتحدد مواقفها بدلالته وتحت تأثيره.
سيقوم الحلف الروسي/ الإسرائيلي، لأسباب عديدة، أهمها انتقال الكيان الصهيوني، بفعل تدمير النظام الأسدي سورية وإخراجها من معادلات القوة في منطقتنا، إلى حال من التفوق الاستراتيجي المستقر والمستدام فترة طويلة، بفضل عمق وكثافة التدخل الروسي في سورية اليوم، وما قد يتخطاها من بلدان وأوضاع غداً، وتفوق جيش إسرائيل المعزّز بعجزٍ عربي عن تحديه في أي مدى منظور، وعداء الدولتين للبلدان العربية، ومصلحتهما المشتركة في منع خروجها من حالها المأساوية الراهنة، حتى لا يقلص نهوضها هوامش نفوذهما السياسي، وقدرتهما العسكرية على تحقيق ما يريدانه، ولا سيما وأن الروس لا يثقون بالحكومات العربية، ويعتقدون أنها أضعف من أن تستطيع كفالة مصالحهم، ويؤمنون بأن اتكالها على دور محتمل، يقومون به لحمايتها من شعوبها، هو عامل إضعاف وتهديد لهم، وليس أرضية تصلح لبناء علاقات استراتيجية معها، بينما تقدم إسرائيل لهم، في المقابل، هذه الأرضية، بما لديها من قوة ورغبة في التفاعل الإيجابي والنشط مع حضورهم العسكري/ السياسي في المشرق، وتمتلكه من قدرة على رد ضغوط أميركا عليهم، فضلاً عن مصلحتها الحيوية في إقامة علاقة تحالفية ودائمة معهم، تحرّرها من واحدية علاقاتها مع واشنطن، وتمكنها من تنفيذ خططها الاستيطانية والتوسعية بأقل قدر من الاعتراضات الدولية، وتمدها بفرصة ذهبية لزيادة هجرة يهود روسيا إليها، في سياق جهودها لتحويل الصهاينة إلى كتلة بشرية رئيسة في المشرق، بالإفادة من تدمير الشعب السوري وتمزيقه، وطرد معظمه من وطنه، وتقويض وحدته وتماسكه، وتشجيع بعض الأقليات المسلحة التي تحظى بدعم أميركي/ روسي واضح على تحويله، في مستقبل غير بعيد، إلى طوائف وفرق متناحرة، تعيش في كيانات سياسية متعادية.
من جهتها، تجنح القيادة الروسية أكثر فأكثر إلى بناء علاقاتٍ من نمط أميركي مع الكيان الصهيوني، إن نجحت لعبت أبعادها الداخلية دوراً مقرّراً في علاقات موسكو مع العالم العربي، ودفعتها إلى اتخاذ مواقف ودية حيال الكيان الصهيوني، ومشاريعه الاستيطانية، وإلى فك طوق العزلة من حوله، وقدمت له ضمانات تكفل استمرار تفوقه الاستراتيجي الراهن على جواره القريب والبعيد منه. وضمنت، أخيراً، تحكمه بمحيطه العربي من خلال علاقاته التحالفية والمميزة بالدولتين العظميين: أميركا منذ مؤتمر بالتيمور عام 1942، وروسيا منذ غزوها العسكري سورية.
باستنادها إلى تحالف عسكري/ سياسي مع إسرائيل، سيكون في وسع روسيا تحسين شروط وجودها في المشرق العربي اليوم، وما وراءه غداً، وامتلاك قوة ردع تمكّنها من حماية مصالحها العربية، وزيادة فرص نجاحها في إقامة علاقات أمنية دائمة مع إيران والعراق وسورية وتنظيمات إرهابية تأتمر بأمرها، في مقابل عزل تركيا وتطويقها من الخارج، وتحريض خصومها ضد وحدتها وتكاملها الوطني، وبلوغ وضع قوي إلى درجة ترغم أميركا وأوروبا على البحث عن حلول مقبولة للمسائل الدولية الخلافية معها. وفي النهاية، تعزيز تشابكاتها الاقتصادية العالمية، ومكانها من التقدم التقني، وتنمية مواردها ضمن إطار دولي ملائم. سيترتب هذا كله على ارتباط موسكو بالقاعدة الصلبة التي سينتجها تحالفها مع كيان صهيوني، له امتدادات دولية وازنة جداً في بلدان الغرب، ونفوذ سياسي واستراتيجي مؤثر جداً في واشنطن، وغيرها من عواصم العالم .
فتح التدخل الروسي في سورية باب تطوراتٍ نوعيةٍ، لم نعرف مثيلاً لها في تاريخنا الحديث، أهمها تحالف موسكو/ تل أبيب الذي سيكون أشد أهمية بالنسبة لنا كعرب من أي حدث آخر، بما في ذلك دخول روسيا إلى سورية الذي يمكن أن يتحول إلى فخ قاتل، إذا لم يقم التحالف مع الصهاينة بنتائجه الدولية التي ذكرت بعضها. بقول آخر: إننا ذاهبون إلى زمن سيغرّبنا عن ما يحدث في منطقتنا، إذا تمسكنا بالمعايير والأفكار التي صنعتها الفترة السابقة للحربين العالميتين، الأولى والتالية للثانية، ولقيام الكيان الصهيوني، وما أنتجه من علاقات وبيئات سياسية. لا بد من من تطوير قراءة مختلفة في جوانب كثيرة لمفرداتٍ عديدة في واقعنا المحلي والدولي، وبناء أوضاع وطنية وقومية، مغايرة لما قام منها في نيّفٍ وقرن مضى، حفل بجميع أنواع الكوارث والخيبات.
ليست العلاقة العسكرية الروسية الإسرائيلية بالحدث العابر، أو المحكوم بالعرضية والمصادفات. إنها أول خطوة على طريقٍ لن يبقى بعدها شيء، كما كان قبلها. والسؤال الآن: هل نفهم، نحن العرب، أبعاد ما يجري على حقيقته، وماذا يجب أن نعمل لنحول دونه، ولنحمي أوطاننا من السقوط؟
المصدر : العربي الجديد