تعهّد الرئيس السوري بشار الأسد قبل أيام في مقابلة مع وكالة أنباء أوروبية باستعادة السيطرة على سوريا بالكامل، وقال إن ذلك قد يتطلب وقتا طويلا، وأكّد على أن التفاوض لا يعني التوقف عن مكافحة الإرهاب، وبعد يومين تعامل في لقاء مع المحامين مع الوجود العسكري الروسي في سوريا على أنه لصالحه في كل اتجاه، لكن رؤيته المستندة إلى استمرار الحرب وُوجهت برد غير متوقع.
جاء الرد من مكان غير مألوف، فعقب هذه التصريحات صوّب الروس لأول مرّة سهامهم الإعلامية تجاه الأسد، وغيّر الإعلام الروسي المقرب من الكرملين لهجته تجاه رأس النظام السوري، وقال إن تفكيره يتناقض مع السياسة الروسية، ونشرت الـ”كوميرسانت” و”ونيرافيسيمايا غازيتا” وغيرها انتقادات لخطابه الحربي وتفاخره الدائم بـ”قرعة جاره” روسيا، ونشرت مقالات بعناوين هجومية كـ”الأسد يمعن برغبته في القتال”، و”الأسد يفرض نفسه على موسكو”، وقالت إن النهج الذي اتخذه الأسد لن يعرقل تحويل نجاح روسيا العسكري في سوريا إلى مكاسب سياسية فحسب بل يهدد باستمرار تسعير علاقاتها مع الغرب والعالم العربي.
لم يكن هناك شك بأن انتقادات الإعلام الروسي أتت بناء على طلب من السلطة السياسية، حيث لم تمض أربع وعشرون ساعة إلا وأطلق مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين تصريحا مثيرا قال فيه إن تعليقات الأسد “لا تتسق مع المساعي الدبلوماسية الروسية لحل الأزمة السورية”، وأضاف “إذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا فستكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة”، بل واستخف بكلامه وقال “لا يجب أن نركز على ما يقوله بل على ما سيقوم به في النهاية”.
تبع هذا التصريح آخر مشابه لنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف قال فيه “على الأسد وأطراف أخرى في الصراع الاستماع لنصيحة موسكو”، ثم أكّد بعدها الكرملين أنه لا بديل عن التسوية السياسية بسوريا رداً على (مراجل) الأسد الحربية، كذلك أكّد رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف على أن قرار العمليات العسكرية بيد بوتين لا الأسد، وألمح لإمكانية فتح تحقيق دولي حول اتهام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للأسد بارتكاب جرائم حرب.
ليس خافيا أن الأسد مازال حتى اللحظة يُقدّم تفسيراته الخاصة للحل السياسي للأزمة السورية، ولموضوع هيئة الحكم الانتقالي، وتصنيف المعارضة، وصلاحيات الرئيس، وينسف بتفسيراته بيانات جنيف وفيينا وميونيخ والقرار 2254. ولا تتقاطع رؤيته للحل مع الحد الأدنى من معطيات البيانات والقرارات الدولية، حيث يرى أن الحكم الانتقالي هو مجرد انتقال من الفوضى إلى الاستقرار، وهيئة الحكم هي تعديل وزاري، وأن المعارضة هي فقط تلك التي تعمل بالداخل وتؤيد الإصلاح تحت سقفه، وأن كل من حمل سلاحا ضده هو إرهابي، وأن مصيره وأبدية حكمه أشياء غير قابلة للنقاش.
يعتقد الأسد أن انخراط روسيا بالصراع في سوريا جاء من أجل ضمان نصر شخصي نهائي له، وتناسى كل الدوافع الروسية الذاتية والاستراتيجية والعسكرية والسياسية، وتوحي تصريحاته بأن الروس يحاربون لينتصروا على الجميع ثم يُسلّمون له مفاتيح سوريا ويرحلون، وأن السوريين سينسون المآسي وجرائم الحرب والقتل الجماعي والمجاعات والدمار اللا محدود الذي خلّفتها حربه وسيعودون إلى حضنه راضين سعيدين.
قدّم النظام السوري لروسيا الأرض للطائرات العسكرية، ودون سقف زمني، ودون أن يحق لحكومته الدخول إلى مناطق انتشار القوات الروسية إلا بموافقة الطرف الروسي، وسلّم قيادة العملية العسكرية لروسيا، وسمح لها أن تقرر الكثير من الأمور بالنيابة عنه مقابل منع سقوطه الذي كان وشيكا قبل التدخل الروسي، ورغم هذا مازال يعتقد أنه مازال قادرا على المناورة، ويحاول دخول البرزخ بين روسيا وإيران ويلعب في تلك المنطقة الخطرة. حيث ترى أوساط الحكم في دمشق أن روسيا يمكن أن تضمن استمرار النظام مرحليا أما إيران فيمكن أن تضمنه بشكل أبدي، وأن الأول حليف تكتيكي بينما الثانية حليفة استراتيجية.
يحاول الأسد التعامل مع الوضع السوري كلاعب الأكروبات، ويعتقد أنه قادر على السير على الحبل الفاصل بين روسيا وإيران، لينهل من قوة روسيا وحمايتها وقوتها الدولية من جهة ويتكئ على ميليشيات إيران وتمردها على المجتمع الدولي وطائفيتها من جهة أخرى، وهو يعتقد أن هذا اللعب وحده الضامن لاستمراره بالحكم والسلطة.
ليس مستبعدا أن يُحاول الأسد عصيان الروس، فلنظامه تاريخ حافل بتغيير المواقف ونقض الوعود والتأقلم مع الظروف واللعب على الحبال، تاريخ من تذبذب العلاقات وتبدلها صعوداً وهبوطاً مع الكثير من الدول والحكومات والأنظمة، فعلاقته التي وصلت خلال فترة قياسية بسرعتها مع تركيا إلى درجة العلاقة الاستراتيجية سرعان ما انهارت وتحوّلت إلى العداء المُطلق بسرعة قياسية أيضاً. وينطبق الأمر نفسه على علاقته بقطر والسعودية ومصر، وهذا التذبذب والمزاجية صبغا أيضاً علاقاته مع لبنان والعراق، وهيمنت على علاقاته مع المنظمات الفلسطينية من فتح وحتى حماس، كما وسمت وخربت علاقته بفرنسا وبالعديد من الدول الأوروبية التي حاولت مد يد العون له لتنتشله من قطيعة دولية خانقة بعد استلامه السلطة بسنوات قليلة.
من منطلق الواقعية السياسية يمكن القول إن التصريحات الروسية بحق الأسد ليست بالضرورة مؤشر على تحول سياسي جذري بموقف الكرملين، لكنّها دون شك تنبيه عالي اللهجة بأن التمرد تتبعه عقوبة، وأن خروج الأسد عن النص الروسي سيؤدي إلى “عدم خروجه بكرامة” كما قال تشوركين. وهو ما تُرجّحه المعارضة السورية التي تقول إن النظام لو كان يعرف معنى الكرامة لما شن حرباً طاحنة على شعبه لمجرد أنه طالب بالحرية والكرامة.
يُطلق الأسد تصريحات وفتاوى سياسية أكبر من حجمه، وهو يعتقد أنه قادر على الاستفادة من الاندفاع الروسي ووضع حد له متى شاء، ليعود إلى حضن إيران من جديد، لكنّه ينسى أن خروج روسيا من سوريا لم يعد بيده، وأن سيطرة إيران على القرار السوري من جديد سيُشعل حروباً إقليمية لا نهاية لها، ستدفع الروس لضرب النظام بيد من حديد كما تضرب المعارضة الآن، عندها لن يفيده لا حرس ثوري ولا ملالي ولا مرشد.
المصدر : العرب