تستعد أطراف الأزمة السورية لاستئناف مسار التفاوض، فيما يبدو محاولة لإظهار أن العملية التفاوضية لم تمت بعد، وأن المسار السياسي لا يزال صالحاً ليكون مدخلاً إلى إنهاء الأزمة. وهو أمر يدعو إلى الريبة، أكثر من التفاؤل، فأسباب فشل جولة المفاوضات الأخيرة، قبل أقل من شهرين، لا تزال قائمة، بل ازدادت تعقيداً. وفي حين لم يتحرك أي طرف لتفكيك العقد التي أفشلت التفاوض، طفت على السطح فكرة تقسيم الدولة السورية الموحدة. سواء في شكل دولة فيدرالية، أو بالتقسيم الكامل والرسمي إلى دويلات مستقلة.
ليس هذا المستقبل لسورية جديداً في طروحات المحللين والمراقبين، لكنه جديد على المواقف الرسمية، العلنية على الأقل. من هنا، يمكن اعتبار التصريحات الأميركية، والتعليقات الروسية عليها، بمثابة انتقال فكرة التقسيم من الغرف المغلقة، والتداولات البحثية والتشاورية، إلى نطاق التنفيذ الفعلي، وإن استغرق ذلك بضع سنوات.
وكما هو معروف في عالم السياسة والدبلوماسية، الإعلان عن فكرة أو مشروع، حتى وإن جاء في سياق التحذير منه أو استباقه بالرفض، يعني أنه لم يعد مستحيلاً، وصار قابلاً للنقاش والأخذ والرد. وما يبدأ برفضٍ أو تحذير، كثيراً ما ينتهي إلى قبول جزئي، بل وأحياناً كلي. وهذا بالضبط ما يمكن استنتاجه من المواقف الأميركية أخيراً، وتصريحات الوزير جون كيري التي حذّر فيها من تقسيم سورية، ما لم ينجح المسار السياسي في تسوية الأزمة. ليبارك ما ذهب إليه، قبل أسابيع، الرئيس السابق للاستخبارات الأميركية، من أن دولاً في الشرق الأوسط لم تعد كما كانت، ولن تعود أبداً، ومنها سورية وليبيا.
تروج الدوائر الرسمية السورية، بمشاركة حكومات عربية، مقولة أن الثورة السورية هي المسؤولة عما آلت إليه الأوضاع هناك، باعتبارها عملاً تآمرياً مخططاً مسبقاً. ما يعني أن الشعب السوري هو من يتحمل مسؤولية التقسيم المتوقع، بل وكذلك التشريد والتقتيل والدمار الذي أصاب هذا الشعب نفسه. بينما يذهب النظام (الذي يتهم الغرب وواشنطن خصوصاً بمعاداته والتآمر عليه) للتفاوض برعاية وتنسيق روسي أميركي مباشر وحصري. وهو المنطق نفسه الذي تتبناه دول وأطراف عربية وإقليمية، بادعاء الاستنفار لصد المؤامرة والوقوف في وجه المؤامرة.
فيما هي تشارك فعلياً في تجيير مصير الدولة السورية باتجاه التقسيم. بدعم نظامٍ لا يفعل شيئاً سوى تقتيل شعبه، بحجتي الحفاظ على الدولة ومواجهة “الإرهاب”. فيما الحاصل، منذ خمس سنوات، أن النظام هو الباقي، فيما الدولة تنهار ثم تتفكك، وها هي توشك على التقسُّم. بينما الإرهاب المزعومة مواجهته يستفحل، ويثبت أقدامه، ويوسع نطاق سيطرته وانتشاره.
وعلى الرغم من أن المعارضة السورية تعاني، بشدة، حالياً من ضيق الخيارات وصعوبة البدائل المتاحة أمامها، إلا أنها تتحمل شقاً من مسؤولية انهيار سورية، وذلك بالاختلاف والتشتت والتنازع الذي ساد فصائلها منذ الأشهر الأولى للثورة. حتى وصل الحال إلى أن الالتئام بين صفوفها لم يعد كافياً لتحقيق انتصارات عسكرية، أو انتزاع مكاسب واحتلال مساحات سياسية.
لكن، تظل تلك مسؤولية ثانوية، تالية لمسؤولية الأطراف الأقوى الأكثر تأثيراً وقدرة على تحريك الأحداث، والتحكم في وتيرتها ووجهتها، أي الولايات المتحدة وروسيا. بل إن الدول والأطراف صاحبة المسؤولية الفرعية لم تكن لتتبنى موقفاً كهذا، ما لم تكن مطمئنة تماماً لجهة رد الفعل الأميركي والروسي، وأنه لا فيتو عملياً على دعم نظام بشار الأسد في مواجهة شعبه.
كالعادة، يسبق العالم العرب دائماً حتى في الشر، فقد بدأت تتوالى إشارات الاعتراف بتقسيم سورية، أو بالأحرى التبشير به، بينما لا يزال العرب يلوكون حديث الدولة والاستقرار، وهم يعلمون يقيناً أنه حديث زور ومخاتلة.
المصدر : العربي الجديد