توحي ردود الفعل على إعلان الأحزاب السورية الكردية «نظاماً فيديرالياً» في المناطق التي تسيطر عليها في شمال سورية كأن هذا القرار كان مفاجئاً للجميع. فجأة صارت الأصوات تنادي بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. لم يقتصر الأمر على النظام السوري، الذي ما زال يعتبر نفسه مؤتمناً على هذه الوحدة وحامياً لها، رغم أن القرار بشأن مستقبل رئيسه صار في يد سيرغي لافروف وجون كيري، بل اندفع «الائتلاف الوطني» أيضاً ليحذر مما اعتبره «محاولة تشكيل كيانات أو مناطق تصادر إرادة الشعب السوري».
لم تكن خريطة سورية بحاجة إلى القرار الكردي لتثبت أنها لم تعد خريطة قابلة للبقاء كما كانت قبل خمس سنوات. الحرب الأهلية التي تحولت إلى حروب إقليمية قضت على كل عناصر ومقومات الوحدة الوهمية التي كانت قائمة بقوة القمع وكمّ الأفواه. الطابع المذهبي الذي أخذه الصراع نتيجة الحرب التي خاضها رئيسه ضد أكثرية شعبه، وتحالفاته الإقليمية التي جلبت إيران والميليشيات العاملة معها إلى هذه الحرب، وما تبع ذلك من تدخلات مقابلة أخذت هي أيضاً طابعاً مذهبياً، كل هذا فتح المجال أمام تفكك البنية الاجتماعية السورية، وبالتالي إلى تفكك البنية السياسية، مع ما يتبع ذلك بشكل طبيعي من انهيار كل مقومات وحدة الدولة وسيادتها على كامل أرضها.
لم يكن الأكراد استثناء في هذه الحال. ما ميّز مناطقهم عن مناطق المعارضة الأخرى هو أنها حافظت منذ البداية على علاقات مقبولة مع النظام، فغابت المواجهات المباشرة بين الطرفين، كما حصل مع فصائل المعارضة. وعندما تحولت مدينة القامشلي إلى «عاصمة» فعلية لمناطق الشمال الكردي حافظ النظام على مراكزه فيها من دون اصطدام بالأجهزة الكردية التي تدير الأمور الإدارية والأمنية. وضع الأكراد دستوراً جديداً ونظموا انتخابات وأقاموا مجالس محلية. ومع ذلك لم تنقطع العلاقات مع النظام، ويعود ذلك أساساً إلى عدائهما المشترك للأطراف الرئيسية في المعارضة. في حالة النظام كان هذا العداء مفهوماً بعدما انبرى رئيسه إلى تصنيف المعارضين في خانة الإرهابيين، الذين لا حل للصراع إلا بالقضاء عليهم. أما بالنسبة إلى الأكراد، فكانت العلاقات الوثيقة والرعاية التي حظيت بها أطراف المعارضة من جانب تركيا سبباً كافياً للتحفظ المتبادل، فصار إبعاد الأكراد عن مفاوضات جنيف مطلباً تركياً، لم يعترض عليه «الائتلاف»، فيما لم يربط النظام مشاركته في المفاوضات بضرورة حضورهم.
حقق أكراد سورية الحكم الذاتي فعلياً من قبل أن يعلنوا رغبتهم في قيام نظام فيديرالي في كامل سورية. في المناطق الكردية الثلاث، عفرين وكوباني والجزيرة (في محافظة الحسكة) تسيطر قوات حماية الشعب الكردي على الشؤون الأمنية. استطاع الأكراد المحافظة على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وروسيا في الوقت ذاته. حربهم مع «داعش» والنصر الذي حققوه على التنظيم، خصوصاً في معركة تحرير كوباني (عين العرب) التي خاضوها وحيدين، رغم تخاذل النظام وموقف تركيا المتفرج، سمحت لهم بكسب ثقة الإدارة الأميركية. وعلى رغم إعلان واشنطن عدم الاعتراف بمنطقة حكم ذاتي للأكراد في شمال سورية، هناك قاعدتان لسلاح الجو الأميركي في هذه المناطق، واتصالات دائمة بين ممثلين للإدارة الأميركية ومسؤولين في «حزب الاتحاد الديموقراطي» في القامشلي.
أما موسكو فقد سمحت لهذا الحزب بفتح مكتب تمثيلي فيها، فضلاً عن التعاون العسكري الذي قام بين الجانبين خلال التدخل العسكري في سورية، إذ منع هذا التدخل القوات التركية من اقتحام المناطق التي وقعت تحت سيطرة الأكراد، وخصوصاً في حلب، ما سمح لهم بالمحافظة عليها واعتبارها جزءاً مما سموه منطقة «روج آفا» (غرب كردستان) مع إعلانهم عن تبني النظام الفيديرالي.
خريطة سورية موضوعة على الطاولات في عواصم القرار الكبرى. وبقدر ما يمكن أن تقرر مفاوضات جنيف مصير الدولة السورية ومستقبل الحكم فيها وصلاحية رئيسها للبقاء، فإن الإعلان الذي خرج أمس من بلدة رميلان في محافظة الحسكة لا يقل أهمية. بل قد يسجل التاريخ أنه أول مسمار في نعش تلك الخريطة، كما كنا نعرفها.
المصدر : الحياة