أثارت أحداث بروكسل الإرهابية في ذهني أسئلة عديدة، كما أثارت في وِجْدَانِي مخاوف مُحْبِطَة، حيث أصبح من المؤكد أن عولمة الإرهاب تندرج ضمن حساباتٍ استراتيجيةٍ مركَّبة، وهي حساباتٌ تتجاوز المواقف التي تَمَّ الحديث عنها بعد الانفجارات مباشرة، وذلك من قَبِيل ربطها بجنسيات (وعقائد) من ارتكبوها أو توسطوا في عمليات ارتكابها.
يعرف الجميع، اليوم، أن تنظيم داعش يشتغل بآلياتٍ جديدة، تضفي على تحركاته الإرهابية فعالية، سواء في مراحل تجنيده الدواعش، أو في مراحل إعدادهم للقيام بالمهام الميدانية في الشرق والغرب.
لا يمكن فصل أحداث بروكسل عن مسلسل المشروع الإرهابي المتواصل لداعش، فهي متصلة بما وقع قبلها في الأسابيع القليلة الماضية في أنقرة، ولِمَا يقع منذ سنوات، ولِمَا وقع بعدها في بغداد ولاهور، فقد ازدادت شهية تنظيم داعش لسفك دماء الأبرياء وترويع الآدميين في كل مكان. لكن، من يقف وراء داعش؟
لم يعد مُجْدِياً تَذَكُّر العلامات الأولى للشرارات التي صنعت الحدث، ولا التفكير في الخيوط التي رُكِّبَت منها الظاهرة الداعشية، كما أنه لا فائدة من الإشارة إلى تفاصيل التسمية ودلالاتها، ذلك أن ما يحصل اليوم أمام أنظار العالم مُختلط بصورة معقَّدة.
أصبحنا نواجه اليوم مآزق جديدة بين الأطراف المتصارعة على المشرق العربي، في كل من أميركا وأوروبا وروسيا، إضافة إلى تركيا وإيران ومن في فلكهما، ما ساهم في إنشاء تحالُفاتٍ وإطلاق تناقضاتٍ جديدة، نتج عنها، في السياق العربي، وصول ليبيا إلى مواجهة الأبواب المسدودة، حيث يخاصم الجميعُ الجميعَ، وينتعش الظلام.
لم يعد ما يجري واضحاً، لا في اليمن ولا في سورية ولا في ليبيا، كما أن الصراعات الطائفية في لبنان والعراق تجري من دون معرفة حدودها أو مُسْتَقَرِّها. أما التدويل الذي لحق الأحداث الجارية، وساهم في ترتيب جوانب من مساراتها ومآزقها الجديدة، فلم يعد أحد يدرك مَدَاه وحدوده. وفي مثل هذه الأوضاع، تنشأ مواثيق التدبير المبنية على حساباتٍ ومواقف غير مُعلنة، حساباتٍ تؤسس لخياراتٍ يمكن أن تساهم في إيجاد حلولٍ تقلص من حِدَّة الاختناقات الحاصلة، إلاّ أنها تظل مرهونةً بالقِوَى التي رتَّبت ملامحها العامة.
وإذا كان من المؤكد أن ما يجري اليوم في المشرق العربي، وما حصل قبل أشهر في اليمن “الصراعات الطائفية في لبنان والعراق تجري من دون معرفة حدودها أو مُسْتَقَرِّها” وفي سورية، يؤكد أن الحرب متواصلة، وهي، كما نعرف، لا تملك ميداناً قارّاً، حيث تقع التفجيرات في أماكن عديدة، وتحمل رسائل لأطرافٍ عديدة، فينتشر الهلع هنا وهناك، ويقف الذين يُرتِّبون ما حصل ويحصل، ليعلن بعضهم مسؤوليته عَمَّا حصل، من دون أن يرفّ له جفن، بل ولا يتردَّد في إصدار بياناتٍ دموية، يُعلن فيها أنه وراء الحدث الإرهابي، ووراء عمليات التهجير القسري والعنيف لآلاف السوريين والعراقيين إلى الحدود الأوروبية. إضافة إلى ذلك كله، يُظْهِر أنه يملك قدرة هائلة على تسخير من يستطيعون إضرام النيران في أجسادهم، وأجساد من يحيط بهم من المارة والعابرين، شيوخاً ونساءً وأطفالاً، وهو يعي جيداً أن ذنبهم الأكبر يتمثَّل في عدم وجود أية علاقة لهم بِمُدَبِّري خِطط الصراع الدائرة اليوم وراسميها في عالمٍ ينشأ في قلب الجحيم، ويركِّب خيوطه أولئك الذين يواصلون رغبتهم في ضبط كل ما يجري في العالم وتدبيره، من أجل مزيدٍ من الهيمنة المتوحشة.
يبرز الوجه العبثي والعابث في الموضوع في صور الفوضى التي يحرص مدبرو ما يجري على تعميمها، ذلك أن الأوهام الموظفة في آليات الصراع والحرب تعتمد رأسمالاً رمزياً، يشير إلى جوانب من تراثنا وعقائدنا، ويعمل على توظيفها كطعوم جاذبة لمليشيات قادمةٍ من كل مكان، بَعْضُهَا يَشتري سعادة يفتقدها، وكثيرٌ منها يُوَظَّف من أجل الأمل في نَعيم قادم، فيسعد بالأمل، متطلعاً إلى الغد القريب، ليكتشف شساعة السراب، ونكتشف نحن عُنْفَ لغة دهاقنة فقهاء الظلام، وقد تحوّلوا في رمشة عينٍ إلى مدبري حروب ومُشْعِلِي فِتَنٍ عابرةٍ للقارات..
تتمثَّل السمة الغالبة على الحرب القائمة في طابعها المُرَكَّب، حيث تحتل أطراف الصراع أسماء متعدِّدة ومواقع زئبقية، ونستطيع مُعَايَنَة الطابع الزئبقي المتحوِّل، في تنوُّع مواقف الأطراف المتصارعة وتناقضها، حيث يساهم أكثر من طرفٍ في الصراع مع داعش في ضربها وضرب من يتحالف معها. ولا يتعلق الأمر بداعش وحدها، إنه يتعلق أيضاً بالنظام السوري، وبأطرافٍ أخرى، تتخذ مواقع أدنى من مواقع داعش والنظام السوري، وتَتَّسِع الدائرة لتكبر، فتشمل تركيا وروسيا وإيران والاتحاد الأوروبي، كما تشمل أميركا وإسرائيل، فمن يُدرك وسط الدمار الحاصل حقيقة ما جرى ويجري؟ وَمَن صَنَعَ الآخر وسَخَّره؟
المصدر :العربي الجديد