في أثناء الأزمة التي عصفت بالجزائر في التسعينيات، بسبب تلاعب حكومة سيد غزالي (5 يونيو/ حزيران 1991- 8 يوليو/ تموز 1992) بالاستحقاقات الانتخابية، بدعم مباشر من القادة العسكريين الذين كانوا يسيطرون على مقاليد السلطة في البلاد، ويتعاملون معها، كما لو كانت مزرعتهم الخاصة. وبعد اعتقال أكثر من سبعين ألفاً من جبهة الإنقاذ الوطني الإسلامية، قلت لأصدقائي الجزائريين وزملائي في معهد العلوم الاجتماعية: إذا انقلب الجيش على العملية الانتخابية هذا شأنه.
لكن، إذا قبلت القوى الديمقراطية واليسارية بهذا الانقلاب، وأيدت الجيش، فلن تكون هناك بعد اليوم إمكانية لقيام حياة سياسية حقيقية بعدها. سينفرط عقد الجماعة الوطنية، كما ينفرط الحليب المغشوش. والسبب أنه لن تكون هناك بعد ذلك قاعدة ممكنة للحكم، أو معيار سياسي يحتكم إليه في ضبط سلوك القوى والجماعات، سوى معيار القوة، ومنطق الحرب وإدارة العنف. وبالتالي، التضحية بالسياسة نفسها بوصفها نشاطاً إبداعياً ومستقلاً لتنظيم الشؤون الجماعية وحسم الخلافات بين القوى الاجتماعية والسياسية.
وعندما سألني بعض الطلبة المتعاطفين مع جبهة الإنقاذ، وكنت في ندوة حول الديمقراطية في جامعة مونريال في كندا، عن رأيي في الوضع الجزائري، قلت إن أهم شيء الآن ألا تلجأ جبهة الإنقاذ إلى السلاح، لأنه سيقدم للطغمة العسكرية التي صادرت حياة الجزائر السياسية الذريعة والتبرير المطلوبيْن للقضاء على الحركة الشعبية، وإخضاع المجتمع بالقوة، وتلقينه درساً يردعه عقوداً طويلة عن التفكير في السياسة، أو توخي أي خير فيها، باسم التصدي للتطرّف والظلامية الدينية.
ما حصل هو عكس ما تمنيت تماماً في الحالتين، فقد تبنى اليسار الجزائري، بغالبيته، موقف دعم سياسة القوة والاستئصال التي اتبعتها الطغمة العسكرية، وسقط الإسلاميون تحت إغراء الاحتكام للسلاح. فعل اليساريون ومجمل التحديثيين ذلك اعتداداً بقوة حصان رهانهم، وسلاح حليفهم الأمضى في الجيش وأجهزة الأمن، والإسلاميون اعتداداً بكثرتهم العددية والجماهيرية. واضطر كلاهما إلى هجر المسرح السياسي، بينما كان الرابح الوحيد هو السلالة العسكرية وأعوانها.
وكانت النتيجة الأخطر تكريس القطيعة بين النخبة الحاكمة وتخليدها، وهذه النخبة، هنا، خليط من العسكر وملحقاتهم من المثقفين والسياسيين الوصوليين، ومن مافيات المال والأعمال، لا برنامج لها سوى وضع البلاد في خدمة مصالحها الخاصة، من جهة، والأكثرية الشعبية أو عامة الشعب من جهة ثانية، وإجهاض مشروع أي تغيير سياسي، وتحنيط المجتمع في أقماط وصيغ الحكم الأمني العقيمة التي ستشل الحياة السياسية الجزائرية زمناً طويلاً، وتفرغها من من مضمونها، وتقضي، بالمناسبة نفسها، على أي تفاعل بين النخب الاجتماعية والشعب، وتقوّض أي أملٍ بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتقصر خيارات هذه النخب ومشاريع المستقبل على خيارٍ واحد، هو الإثراء ومراكمة الأرباح والريوع والغنائم الشخصية، من دون أي مبدأ أو عقيدة أو مشروع آخر.
بالتأكيد، لم يكن لدى أحد أي وهم حول احتمال أن تقود هذه الانتخابات نحو نظام سياسي ديمقراطي، يؤسس لمبدأ المواطنة المتساوية والقانونية، ومن ورائها لولادة الأمة الجزائرية، كما لم يكن لدى أحد شك في أن مشروع جبهة الانقاذ هو وضع أسس ديكتاتورية جديدة، إلا أن أحداً لم يكن يشك أيضاً في ركاكة المشروع بأكمله، وانعدام أي فرصة كي يستقر ويعيش. وفي المقابل، كان قبول مبدأ القضاء بالقوة على طرفٍ سياسي يستقطب جزءاً مهماً من الرأي العام، وتبني سياسة الاستئصال، يعني، في ما وراء الحيلولة دون ولادة الحكم الإنقاذي الإسلاموي، تقويض مستقبل الديمقراطية في البلاد، ومن ورائها مستقبل السياسة نفسها. وبالتالي، مشروع بناء الأمة نفسه، بالإضافة إلى تعميق الارتباط في أذهان الشعب زمناً طويلاً بين أي حركة احتجاج أو تغيير والخطاب الاسلامي.
الاختيار بين السياسة والحرب
فسر اليساريون وجميع القوى التي اصطفت وراء الطغمة العسكرية حركة الاحتجاج الشعبي الواسع الذي قادها، لأسبابٍ لا تتعلق بالعقيدة والدين، وإنما بخيانة النخب الاجتماعية الملتحقة بالدولة. الإسلاميون على أنها مشروع عقائدي فحسب، ونظروا إلى أيديولوجيتها الدينية، ولم يرد أحد منهم أن ينظر إلى مضمونها الاحتجاجي الأساسي، وإلى التطلعات الديمقراطية التي تنطوي عليها، بما تحمله من تغييرٍ لميزان القوى الاجتماعي، فرموا الوليد مع ماء الولادة، واعتبروا، أكثر من ذلك، أن السماح للإسلاميين بالفوز في الانتخابات التشريعية يعني تعبيد الطريق أمام نشوء دولةٍ إسلاميةٍ راسخةٍ لا يمكن مقاومتها، وخافوا من فقدانهم السلطة إلى الأبد، فبرّروا لأنفسهم الانقلاب على الدستور، وتقويض العملية الانتخابية وحمل السلاح. وتصرّف الإسلاميون بالمثل، وعملوا كما لو أن احتمال نجاحهم في الانتخابات التشريعية هو فرصتهم الوحيدة، وربما الأخيرة، لتحقيق طموحهم للوصول إلى السلطة، أو المشاركة فيها، ونظروا إلى الانقلاب عليها، أو تعليقها، نهاية العالم وتهديداً لوجودهم نفسه، ولم يروا أمامهم خياراً سوى القتال حتى الموت، لانتزاع السلطة كاملةً من يد سارقيها أو الشهادة، فاستسهلوا هم أيضاً حمل السلاح.
ودخلت الجزائر في حربٍ أهليةٍ لم تجد لها أي حل حتى اليوم، وإنما أخمدت بتجميد أي حياة سياسية فعلية، وبقيت مستمرةً تحت الجلد، كالدمل الذي يلتهم الجسد المريض كله.
والحال أن نجاح الإسلاميين في الانتخابات التشريعية ما كان ليعطيهم مفاتيح السلطة الحقيقية التي تسيطر عليها قوىً معادية لهم في الجيش والإدارة والدولة والاقتصاد. وكان نجاحهم في الانتخابات سيواجههم بتحدياتٍ لا قبل لهم بها، وسيفرض عليهم خياراتٍ تتناقض مباشرةً مع شعاراتهم، وتصطدم بعنف مع تطلعات الحركة الشعبية والجمهور الذي صوّت لهم على سبيل رفض الحكم القائم، لا توقيعاً على بياض لبرنامج إسلامي غير موجود أصلاً، وليس فيه أي فكرة عن الحلول التي ينتظرها الشعب لقضايا اجتماعية واقتصادية وإدارية متأزمة عديدة. وبالمثل، لو نجحت الجبهة الإسلامية في التغلب على وهم القوة العددية، واختارت أن تستمر في المقاومة السلمية، بانتظار أن يتغير الظرف، وتتبلور بشكل أفضل برامجها وأهدافها، لأسقط في يد الطغمة العسكرية التي لا تملك أي حل لإرضاء الحركة الشعبية، سوى إعادة الجمهور إلى “أوكاره” بالقوة، وكسر إرادته لوقف الاحتجاج. وهكذا، جاءت النتيجة معاكسةً تماما لتوقعاتها.
وحصل بسبب تسرّعها قطف ثمار شعبيتها ما كان قادتها يخشونه، أعني بدل انتزاع السلطة، فقدوا أي أمل لهم بالمشاركة فيها، بعد أن تورطوا، كما أرادت الطغمة العسكرية أن يفعلوا، في حربٍ دمرتهم، كما دمرت أي حياة سياسية ممكنة، وخرجت منها الجزائر صحراءَ سياسية قاحلة ونخبة سياسية خرساء، لا خطاب ولا برامج ولا توقعات. في الحالتين، القاسم المشترك كان غياب أي اعترافٍ بحيز السياسة، وانعدام الثقة عند الطرفين بقيمة العمل السياسي المتعدّد الأبعاد والبعيد المدى وفائدته، وتحللهما معاً من أي معنىً للشرعية والحياة الدستورية والقانونية، وتصرّف الجميع على أساس أنه لا يمكن أن يكون هناك مكان، أو إمكان، لأي تفاوض أو تسوية أو تفاهم، وأن الرهان لا يتجزأ، إما الكل أو لا شيء، ما يعني أنه لا يمكن أن يوجد مجال لحسم النزاع والخلاف على تقاسم السلطة أو توزيعها أو تداولها إلا بالحرب.
تلوث النخب بثقافة المعمرين البيض ومنطقهم، واحتقاره هذه النخب الشعب المحتل، وافتقاد فكرهم الأفق والمنطق السياسي الناجم عن غياب التجربة السياسية واستمرار أحادية السلطة عقوداً طويلة، وعدم تبلور فكر سياسي ديمقراطي لدى الطرفين. أدى ذلك كله إلى الانخراط في الحرب الأهلية بحماس، والاستسلام للعنف. وفي النهاية، إلى تعريض البلاد إلى أزمة وطنية مستمرة، ووضعها على شفا هوة فاغرة عقوداً طويلة، لا تزال لا تعرف، بعد ربع قرن، كيف تخرج منها، كما يشير إلى ذلك موت الحياة السياسية، وتفكك النخب الحاكمة وأحزابها وفراغ المناصب والرئاسات من أي معنى.
كان خوف الطبقات الوسطى التي كانت المستفيدة الرئيسية من النظام من وصول الإسلاميين إلى الحكم مبرّراً، وهذا ما يفسر ردة الفعل القوية التي قامت بها. وقد زاد من شدة هذا الخوف تزاوج حركة الاحتجاج الشعبي بعقيدةٍ مرتبطة بالدين، تعطي، أو من الممكن أن تعطي، للاحتجاج شرعية استثنائية، وتزيد من قوته ومخاطر نجاحه أيضاً. لكن سعي النخب الاجتماعية التابعة لهذه الطبقات عموما إلى القضاء على الحركة الشعبية التي تهدّد استئثارها بالسلطة والثروة، والتشكيك بمطالبها المشروعة بذريعة الخوف من المخاطر الإسلاموية، وتضخيم التهديد للدولة، ثم اتخاذ قرار شن الحرب عليها، قد قطع الطريق أمام أي تسويةٍ اجتماعية، وجعل من الحرب نمط الحكم الوحيد الممكن، ومن ورائه تعميق القطيعة بين النخب الحاكمة وجمهرة الشعب العريضة. ولا شك في أن الإسلاميين كانوا على حق في تفسير قطع المسار الانتخابي حرماناً غير قانوني لهم من فرصتهم التاريخية بالوصول إلى السلطة، والمشاركة في الحكم. لكن خطأهم الرئيس، كخصومهم، أنهم رفضوا التفاوض عليه، وتطمين خصومهم، اعتقادا منهم بامتلاك مفتاح الفوز الأكيد والساحق.
خطأ الطرفين المشترك هو استبعادهما معاً منطق السياسة، ورهانهما المتبادل على الحسم بالقوة العسكرية. وهذا ما يخفي إرادتهما في فرض خيارهما، كل طرف على الطرف الآخر، ورفض قبول التسويات التي هي نحو السياسة وصرفها، بوصفها السبيل الوحيد لحل الخلافات بالطرق السلمية وتجنيب المجتمعات الصدام والحرب والتصدّع والانقسام. وفي مقدمة هذه التسويات جميعاً، وأصلها التسوية المتعلقة بطريقة معالجة الخلافات السياسية والاجتماعية، وهذه هي الديمقراطية التي لا تعني سوى أمر واحد، هو التفاهم على قواعد التنافس والصراع والحسم في الخيارات والحلول، والذي يشكل التسوية التاريخية والأساسية التي تسمح بتحويل الصراع من حربٍ وجوديةٍ لا تحسم إلا بالقضاء على طرف، والانتصار الساحق لطرف. وبالتالي، إلى تكوين مجتمعين وأمتين متنابذتين ومتقابلتين، إلى تنافس على القيادة التي تعني تحديد التوجهات الفكرية والسياسية للمجتمع الموحد والأمة الواحدة، من خلال العمل السلمي والحر على كسب الأكثرية الانتخابية. هذه هي التسوية السياسية الأولى والتأسيسية، وهي أول طريق السياسة. كل تسويةٍ سابقة على ذلك، أي قبل إقرار الديمقراطية قاعدة للحكم وفض الاشتباك، هي هدنة تمهد لاستئناف الحرب التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، ولا تستنفد طاقتها إلا بدمار الطرفين.
بين توحش سياسة الاستئصال وأداة التوحش
ليست الديمقراطية خياراً أخلاقياً فحسب، لكنها الأساس الذي لا تقوم من دونه، اليوم، أي حياة سياسية، ولا تنشأ أي إمكانية لتجنب الحروب الأهلية في غيابها. ومن دون حياةٍ سياسيةٍ، لا يكون هناك تفاعل بين الطبقات والفئات الاجتماعية، ولا بين الحاكمين والمحكومين، ولا قدرة على أي إصلاح أو تعديل. وبالتالي، لا توجد فرصة لأي عدالة اجتماعية وتفاهم وتقارب بين القوى والطبقات والجماعات.
اليوم أكثر من أي فترة سابقة، ولأسباب عديدة وعميقة أيضا، تاريخية، فكرية ودينية واجتماعية واقتصادية، نحن منقسمون. وسوف نبقى منقسمين بين إسلاميين وغير إسلاميين، تقدميين ومحافظين، فقراء وأغنياء، أكثريات وأقليات إلخ. وكما أن استمرار الحرب، أو الرهان على منطق الحرب، لا يمكن إلا أن يفاقم من الظلم، ويضاعف التوترات والاحتقان بين الطبقات والجماعات، كذلك لا يمكن للإنقسام الذي يسم كل المجتمعات أن يزول أو يتراجع إلا بتوقف الحرب واستبعاد منطقها، وتدشين زمن الاستقرار والتعايش والتفاعل الذي بمقدار ما يقرب بين الطبقات والنخب والشعوب، يضعف انشقاقاتها الحدية، ويعيد تشكيل التحالفات والقوى والعقائد والأفكار على أسس أكثر تشابكاً وتداخلاً تعمق الوحدة والاستقرار الاجتماعيين. وهذا هو الطريق لتجاوز نزاع العلمانية والإسلامية كخطابي سلطة، وعقيدتي قتال يسيطران اليوم على مجتمعاتنا.
ليس هناك مخرج بالحرب، وفرض الإذعان من طرف على طرف آخر. ولا يسمح بوقف الحرب أو بتقليص رهانها إلا الدخول في الديمقراطية، أو السعي إلى توسيع إطار ممارستها، والبدء، ولو بمرحلة أولى، في الاتفاق على تشغيل الآليات السياسية، ونبذ اللجوء إلى السلاح والعنف.
والعراق خصوصاً، على الطريقة الجزائرية، أي على حساب الشعب، ومن خلال حرمانه من حقوقه الأساسية في تقرير مصيره أولا، وفي الكرامة التي تعني الاحترام والاعتراف بكل فردٍ فيه كذات حرة أو مشروع ذات حرة. وفي الحرية التي تعني حقه في السيادة، بالتفاهم بين جميع أطيافه ومساواتهم في المواطنة والندية. وكما استخدمت السمة الإسلاموية لحركة الاحتجاج الشعبية الجزائرية لتبرير سحق الحركة الشعبية، ورفض مطالبها المشروعة، في الكرامة والحرية، تستخدم اليوم السمة الإسلاموية التي اتخذتها الثورة الشعبية السورية، بهدف تقويض مشروعيه كفاح السوريين القاسي والطويل ضد الفاشية البعثية والوحشية الأسدية. والواقع أن سيطرة هذه السمة لا تنبع من وجود مطالب دينيةٍ من أي شكل، ولا حتى طائفية، وإنما من إغلاق باب التحول السياسي السلمي والمدني من جهة، وتصنيع الإرهاب والتطرف المنظم والمبرمج من السلطة الحاكمة وحلفائها الداخليين والخارجيين، لتبرير حرمان الشعب من حقوقه، وإعادة إخضاعه لحكم العبودية وسطوة الأجهزة الأمنية من جهة ثانية، وبسبب تخلي البلدان الصناعية عن التزاماتها الدولية والإنسانية تجاه الشعوب الفقيرة التي تركتها لمصيرها، ورغبة هذه الدول في رمي المسؤولية، عن الانهيارات والمجازر المتتالية التي تشهدها المجتمعات التي كانت تحلم بالحرية وبالنمو، على شعوبها ودياناتها ومذاهبها، أي على هويتها، وإقامة جدارٍ من العزل العنصري غير المعلن، لتبرير إدارة التوحش والسيطرة عليه بطريقتها الخاصة، من جهة ثالثة. ولا أدري ما الفرق بين وحشية حرب الإبادة الجماعية التي طبقها الأسد، بدعمٍ دولي كامل، لتثبيت حكمه العنصري وإدارة التوحش التي تمارسها “داعش” لتثبيت سلطة دولتها المفترضة على أنقاض سلطة “البعث” الوحشية.
في زمننا أكثر من أي زمن آخر، حيث المساواة هي روح البناء السياسي والقانوني في كل مجتمعات العالم، يعني حرمان المجتمعات من حقها في الانتقال السياسي إلى نظام ديمقراطي، يضمن حريات الأفراد وحقوقهم ومشاركتهم الجماعية والفردية في تقرير مصيرهم، تخليد القتال والنزاع والعنف والحرب. فبمقدار ما يعزّز الاحتكام للسياسة ومنطقها الثقة بين الأطراف، ويدفعها إلى المراهنة على الوسائل السلمية لحل خلافاتها، فإن اللجوء إلى العنف لحرمان الآخرين من حقوقهم لا يمكن أن يمر من دون تفجير عنفٍ مضادٍ مقابل، وربما أكثر إصراراً وصموداً. وهذه حالة الشعب السوري الذي وجد نفسه مضطراً لخوض حربٍ فرضت عليه من دون أي سبب سوى إرادة الحاكمين وقاعدتهم الاجتماعية، ومن يستخدمهم من الديكتاتوريات المحلية والدولية لأغراض جيوستراتيجية، الاستمرار في الاستفراد بالسلطة والتحكم بمستقبل البلاد، وتقرير مصيرها بمعزل عن إرادة سكانها وشعبها.
آن الأوان كي نتعلم من تجارب شعوبنا المريرة أنه ليس أمامنا سوى خيار واحد: بين حياة سياسية ديمقراطية، أو شبه ديمقراطية نتعاون ونتصارع على تطويرها وتحسينها، أي بين تعلم السياسة، أو نغرق في الحرب الأهلية. لكن هذا الخيار لا ينفصل هو نفسه عن خيارٍ أول، يعكس علاقة الأفراد والجماعات ببلدهم وأرضهم نفسها، وتصوّرهم طبيعة وجودهم فيها، مواطنين أحراراً، يبنون معا الوطن الذي يضمن مستقبلهم، ويعبر عن شخصيتهم وقدراتهم، ويستوعب إبداعاتهم، ويكون الانتماء إليه مصدر اعتزازهم وفخرهم، أو كضواري مفترسة، يسعى كل واحد لاقتناص ما يستطيعه على جماجم الآخرين، ولا يسأل لا عن ماضٍ ولا عن مستقبل. وهو الاختيار بين تحويل بلداننا إلى أوطانٍ تقوم الحياة المدنية فيها على أساس القانون، وتساوي الأفراد في المواطنة، أي في الحقوق والواجبات، أو جعلها مزرعةً يعيث فيها كل فرد فساداً على هواه، على مبدأ: أنا ومن بعدي الطوفان. أو أفضل من ذلك: الأسد أو نحرق البلد.
المصدر : العربي الجديد