لا ينفصل التصعيد الإيراني عن جملة الصراعات المعتملة داخل منظومة السلطة العليا. فالانتخابات التي أجريت في الأشهر الأخيرة لمجلس الخبراء والبرلمان أتت بنتائج مغايرة لما كان المرشد يرغب فيه مع فريقه ومع الحرس الثوري الذي يخضع له.
يدرك أقطاب السلطة الإيرانية، محافظين ومعتدلين، أن ترجمة التوازن الداخلي الجديد لمصلحة الإصلاحيين، عملياً، قد تتسبب بنزاعات لا تبقى مضبوطة داخل الإطار السلمي، مما يعني تعريض إيران الى ما بات يعرف بـ «السورنة أو اللبننة»، وهو احتمال ناجم عن طبيعة التناقضات داخل المجتمع الإيراني وبين مكوناته العرقية والإثنية والطائفية. لذا سعى الجميع، ولا يزالون، لإبعاد كأس الانفجار الداخلي الى أقصى مدى. وعلى غرار جميع الأنظمة التي تعاني أزمة داخلية مستعصية، عملت إيران على نقل الأزمة وتصريفها خارج حدودها، فمدت أذرعها الى العراق وسورية والبحرين واليمن ولبنان، حيث لا خلاف في المصالح بين المحافظين والإصلاحيين تجاه التدخل في هذه البلدان. لذا لا يتوقع أن تعمد إيران الى الحد من تدخلها في المرحلة المقبلة، طالما أن مكاسب تتصل بتأجيل الانفجار الداخلي تتحقق من هذا التوسع.
لكن الأمر الأخطر الناجم عن التدخل الإيراني في أكثر من قطر عربي، وخصوصاً منه في العراق وسورية، فهو المتصل بالأبعاد الاستراتيجية والأهداف السياسية المباشرة. تقوم الأيديولوجيا الإيرانية على نظرة الى العالم العربي ليس انطلاقاً من هويته القومية والوطنية، بل من خلال الانتماء المذهبي والطائفي للفرد العربي.
منذ قيام الثورة الإيرانية، ترافقت سياستها تجاه المنطقة مع استحضار الصراعات المذهبية ذات الأبعاد التاريخية، وكأن الثورة أتت لتنتقم من التاريخ القديم، فسعّرت من الخطاب المذهبي، ونصّبت الولي الفقيه ولياً على المسلمين جميعاً، واضعة لغماً من خلال تسييد المذهب الشيعي على سائر المذاهب السنية.
وعندما احتل الأميركيون العراق، تقاطعت المصالح الأميركية والإيرانية عند هدف أساسي عنوانه تحطيم الدولة العراقية من خلال إلغاء الجيش ومؤسسات الدولة، والتوجه نحو تقسيم العراق على أساس طائفي وعرقي. يتوافق هذا التوجه مع الاستراتيجية الإيرانية التي تعيد تصنيف العرب على قاعدة هوياتهم الطائفية وجعل المواطن منتمياً الى المكونات العصبية من قبلية وعشائرية، وهي استراتيجية تهدف في الأساس الى منع قيام دولـة ذات مقومات سيادية وسلطة على الأرض.
أمكن للتحالف الأميركي – الإيراني تحقيق هذا الهدف، فتحولت الدولة العراقية الى دويلات، وانفجرت فيها الصراعات المدفونة والمكبوتة، مما جعل كل مكوّن عراقي في حاجة الى خارج يدعمه. لذا لم يكن غريباً أن تتنطح إيران للهيمنة على العراق المقسّم تحت عنوان حماية الطائفة والمقامات، كما لم تر إيران في انحياز الطوائف السنية الى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» أي أخطار، بل على العكس، رحبت بهذا الانحياز وساعدت على تمكين «داعش» من السيطرة على أقسام واسعة من الأراضي العراقية، مما يعطيها المبرر الأكبر للوجود العسكري داخل العراق، تحت حجة ادعاء محاربة الإرهاب.
أما في سورية، فالتوجه الاستراتيجي للهيمنة على البلد هو نفسه التوجه في العراق. يعطي التدخل الإيراني عنواناً له حماية المقامات الدينية والطوائف المنتمية الى المذهب الإيراني. اما التمسك ببقاء الرئيس الأسد، فهو نابع من كون الرئيس ينتمي الى المذهب الذي ترعاه إيران وتدعمه، وسط بلد يغلب على سكانه المذهب السني. لذا تركز إيران على تسييج وبناء دويلة ذات طابع مذهبي صاف في سورية، لها امتدادات لبنانية بحكم الجغرافيا، وتصر على دور كبير لميليشياتها، بما يؤجج النزاع المذهبي على الـــمدى الأبعــد، ويفكك الدولة السورية بالكامل.
لم يكن للاستراتيجية الإيرانية أن تنجح خطتها التفكيكية حتى الآن، لولا التناقضات التي تعتمل داخل المجتمعات العربية الناجمة عن العسر في الاندماج الاجتماعي، وعن سيطرة الاستبداد ومسؤوليته في الإعاقة، إضافة لاستعصاء هذه المجتمعات عن الدخول في الحداثة والإفادة من منتجاتها. لذا يبدو الصراع مديداً ومنجدلاً بين السعي الى إزالة التدخل الإيراني من جهة، وإعادة استنهاض مشروع وطني وقومي في المنطقة من جهة أخرى.
المصدر : الحياة