العناوين الأبرز، بصدد لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في بطرسبورغ؛ يمكن أن تسير هكذا:
ـ أنقرة وموسكو تضعان جانباً خلافاتهما حول الملف السوري (والنقاط هنا عديدة، ومتشعبة، فيها طرائق محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإغلاق أو ضبط الحدود التركية ـ السورية، ومستقبل بشار الأسد خلال المرحلة الانتقالية، ودعم موسكو لأكراد سوريا، والتركمان شمال اللاذقية على مرأى من قاعدة حميميم.
ـ اللقاء يتيح لموسكو أن تقلّب الرأي، بمعنى إعادة النظر إيجابياً، تجاه مشروعات الغاز في البحر الأسود، عبر تركيا وبلغاريا؛ وهذه أشغال دسمة تماماً اقتصادياً، وهي قيمة جيو ـ سياسية عابرة للقارات أيضاً كما يتوجب القول.
ـ الطرفان توصلا، حول هذه النقطة الثانية، إلى اتفاق يقضي بتقاسم نفقات إنشاء «السيل التركي»، أي خطّ الغاز الذي كان مفخرة بوتين في سنة 2014، ولا يلوح أنّ الكرملين قد تخلى عن شغف إطلاقه في أقرب فرصة.
ـ رغم أنّ الطرفين تحاشيا الإشارة إلى الأمر، فإنّ الدرجة العالية من تفاهمهما حول خطَّيْ غاز البحر الأسود يطرح أسئلة جدية حول الخطين الآخرين في مشروع «سيل نورد 2»، الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا الغربية عبر بحر البلطيق؛ وهنا، أيضاً، ثمة توازن ماكر بين الاقتصاد والجيو ـ سياسة، وغمزة من قناة أوروبا.
باختصار، إذن، كان اللقاء بمثابة التطبيق الأحدث لتلك الحكمة الذرائعية التي اجترحها ونستون شرشل ذات يوم: في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، بل ثمة مصالح دائمة. فكيف إذا اقترنت سلّة المصالح بذلك المزيج الثمين من الاقتصاد والسياسة والأمن؟
وكيف إذا كانت حوليات التاريخ العاصف بين البلدين تضرب بجذورها في قرون، وليس حفنة عقود، من التوتر والتنافس والتصارع والتحارب؟
وبعض المفارقات أيضاً، خاصة إذا ارتدّت عناصر الحاضر إلى أصولها في الماضي؛ كأن يتذكّر أردوغان ـ الذي لا تخفى لديه نزوعات الحنين إلى الإمبراطورية العثمانية ـ أنّ البلاشفة السوفييت كانوا في طليعة مساندي الثوار الأتراك خلال حرب الاستقلال؛ وأنّ أوّل قرض تلقته جمهورية تركيا الفتية، سنة 1932، لم يأت من واشنطن بل من موسكو؛ وأنّ أوّل خطة خمسية تركية، 1934ـ1938، رُسمت على غرار الخطة الخمسية السوفييتية الشهيرة… هذه معلومات توفّرها أبسط الموسوعات، وبالتالي ليس في وسع أيّ حوار تركي ـ روسي معاصر أن يضرب صفحاً عنها، حتى إذا كان النظام السوفييتي قد انطوى (دون أن يطوي، البتة، رجل الاستخبارات السوفييتية السابق، الصاعد في هرم السلطة منذ العام 2000!).
وفي المقابل، ليس في وسع بوتين (الذي يرتكز قسط من شعبيته، أو شعبويته بالأحرى، على إحياء مشاعر الأنفة القومية الروسية، والسلافية عموماً؛ المختلطة أيضاً بالعصبية الدينية الأرثوذكسية)، أن يتناسى صراع الإمبراطوريتين العثمانية والروسية، منذ أواسط القرن السادس عشر، مروراً بحروب البلقان، وحتى الحرب العالمية الأولى. وكان قيام مقاتلات تركية بإسقاط طائرة الـ»سوخوي» الروسية مناسبة قصوى لكي تطفح على السطح هذه المناخات كلها، بل تتورّم وتتضخم، خاصة على لسان القوميين المتشددين ورجال الدين الأرثوذكس.
غير أنّ للحاضر، في السياسة خصوصاً وليس في التاريخ مثلاً، سطوة كبرى على الماضي، وعلى لجم فصوله الصراعية خدمة لمقتضيات المصالح الراهنة؛ أياً كانت مقادير الشدّ والجذب، ومهما اتسعت الهوّة أو تحطمت الجسور. هذا، ضمن اعتبارات أخرى، مكّن أردوغان، المدني في إهاب قائد إنكشاري؛ من مصافحة بوتين، ضابط الاستخبارات في ثياب قيصر العصر. وكأنّ الـ»سوخوي» لم تسقط، أو كأنّ حرب القرم ذاتها لم تقع!
المصدر : القدس العربي