مقالات

ميشيل كيلو – تركيا: الخروج من المأزق

بعد فترةٍ، بدت تركيا خلالها وكأنها لا تعي ما يحدث حولها، ولا ترى كيف تخترقها أخطار يمكن لمسها باليد ورؤيتها بالعين، وتأخذها إلى أوضاع تذكّر بمقدمات ما يحدث في الحروب والأزمات الكبرى، ويدفع مراقبيه إلى مقارنة ردود أفعال أنقرة البطيئة واللحاقية، بما تمارسه طهران من أدوار هجومية، تلعب دوراً وازناً في مسار التطورات، وتنقل مشكلاتها الداخلية إلى خارجها، أو تبقيها بعيدةً عن أزمات جيرانها وصراعاتهم، بينما تبدو سياسة تركيا، وكأنها تستقدم الأخطار إلى داخلها، من دون إبداء رغبة في إبعادها عنه، أو القيام برد فعل مدروس ومؤثر حيالها.

كان السوريون الذين يعيشون في اسطنبول، حيث يتابعون قضيتهم وتفاعلاتها مع الأوضاع التركية، يصابون بالدهشة، وهم يرون بأي قدر من عدم الاكتراث، القريب من العجز، تتفاعل أنقرة مع ما يتكثف قرب حدودها الجنوبية من صراعات سورية/ سورية، وعربية/ إقليمية، ودولية، ويتركّز بصورة خاصة في حلب وحولها، حيث تتجمع وتتقاتل جيوش دولٍ كبيرة وإقليمية وأسدية معادية لها، بمعاونة عشرات آلاف المرتزقة، فضلا عن قوى حزب العمال الكردستاني الذي يخوض، منذ ثلاثين عاماً، الحرب ضدها، ويسعى إلى فصل جنوبها المحاذي لسورية عنها، وقوات “داعش” التي تكفّر نظامها وتعمل لتفجيرها من الداخل، بينما تطوّقها روسيا بعداواتٍ موروثةٍ وجديدةٍ، وتتركها واشنطن وحيدةً في مواجهة عواصف، بدأت باختراقها على يد قوى داخلية، ذات امتداداتٍ خارجية، ويعلن حلف الأطلسي مواقف تكتفي بدعمها كلامياً، تاركا اياها في مواجهة تحدياتٍ يصعب عليها مواجهتها بمفردها، ليس لأنها دولة ضعيفة، فهي ليست كذلك، بل لأنها تتصرف كمن يخاف على ما أنجزه حزب العدالة والتنمية من نهوضٍ شامل، خلال سنواتٍ قليلةٍ لا يضاهيه في عالمنا المعاصر إلا ما أنجزته الصين.

كنا، بكل صراحة، حائرين في ما يظهر من استسلام تركيا للأفخاخ المنصوبة لها التي تجعلها أول دولةٍ إقليمية مرشحة للسقوط في هاويةٍ قد تكون أشد سوءاً من الهاوية السورية، بفعل رهاناتٍ وسياساتٍ دوليةٍ وإقليمية، تزج بها تدريجياً، في مآزق بين احتمالاتها تفكيكُها وشطبها من معادلات القوة والتأثير، في لحظةٍ تشهد أنواعاً من الصراعات العنيفة، لا يستبعد إطلاقاً أن تجعلها سورية التالية، في وقت غير بعيد، إن هي واصلت التمسّك بخياراتها السلبية، ولم تفعل شيئاً للخروج من ورطتها.

في الأسبوعين الأخيرين، بدا وكأن تركيا تصحو من نوم عميق، وتندفع إلى خارج الهاوية التي أدركت، فجأةً، أنه من غير الجائز الاستسلام لها، بسبب خطرها الداهم على دولتها الموحدة ومجتمعها الحديث. هكذا، وبخطواتٍ سريعةٍ ومتلاحقةٍ، سوّت تركيا، في فترة قصيرة، خلافها مع إسرائيل، حليف روسيا الذي يمون كثيراً على أميركا، أو حليف أميركا الذي يضع يده في يد روسيا. ثم التفتت إلى الكرملين، فأنهت القطيعة معه، بعد أن وضعتها على مشارف أوضاع تشبه صراعات روسيا القيصرية ضد السلطنة العثمانية التي أخرجتها من مناطق عديدة، بما في ذلك مناطق في البلقان.

في الوقت نفسه، أعلنت أنقرة عزمها على إنهاء خلافاتها مع نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، والذي ناصبته العداء منذ قام بانقلابه على محمد مرسي: رئيس مصر المنتخب، واعتبرت ممثليه غاصبي سلطةٍ لا شرعية لهم. في نهاية هذه السلسلة من التطورات، أدلى رئيس وزرائها بتصريحاتٍ غير مسبوقة تجاه سورية، قال فيها إن تسوية مشكلتها ممكنة، إذا قدّمت أطراف الصراع الدائر فيها ما أسماها “تضحيات ضرورية”، في إشارة أولى إلى ما اعتبر عموماً بداية تبدّلٍ سيطاول موقف تركيا من المشكلة التي تحمل، في طياتها، مخاطر وتحدّيات جمّة بالنسبة لها. بذلك، تم، من حيث المبدأ، إضعاف مخاطر الانفجار مع البلدان الأجنبية، ووضعت أحجار الأساس لبيئةٍ دوليةٍ، يمكن تطويرها إلى بيئةٍ صديقةٍ، بشيء من التنسيق والمنافع المتبادلة والصبر.

طرح هذا التحول أسئلةً على المعنيين بالشأن السوري، منها: هل يمكن أن تتبنى تركيا مواقف روسيا السورية، وتغير بالتالي موقفها من الثورة؟ للإجابة على هذا السؤال، من الضروري النظر إلى واقعةٍ مهمةٍ، أبرزتها الخطوة الانقلابية، هي تناقض الخطوات التصالحية تجاه موسكو وتل أبيب مع ما كانت أنقرة تعتمده حيالها خلال العام الماضي، وتخليها عن المعايير المبدئية والأيديولوجية في علاقاتها معها، واستبدالها بنهج براغماتي، يقيس عائد السياسات بمنافعها، ويفصله عن عالمها القيمي، ويجيز ما هو مفيد باعتباره صحيحاً وواجب الاتباع. بذلك، يأخذ السؤال الذي سبق طرحه الشكل التالي: هل ستفيد تركيا من تغيير سياساتها تجاه النظام السوري، ومن تبني سياساتٍ تقترب من الخيارات الروسية، مع احتمال أن تبتعد نسبياً عن أميركا؟.

من المعروف أن علاقات أنقرة بموسكو كانت جيدة جداً، قبل إسقاط طائرة السوخوي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، على الرغم من خلافاتهما السورية الجدية والحادّة، فهل كان بين شروط المصالحة تراجع أنقرة عن دعم المعارضة السورية، كما يعتقد كثيرون، وهل يمكن للمصالحة أن تؤسس بيئة مصلحية وسياسية، تغري أنقرة بتراجعٍ كهذا، كما يؤمن واقعيون كثيرون؟

أعتقد أن النتائج الحقيقية لما سيحدث لن تظهر إلا بعد حين، عندما ستترجم التفاهمات الثنائية إلى سياسات ومواقف عملية حيال القضايا المشتركة، وتلك المختلف عليها. عندئذٍ، سيغدو السؤال: هل تقرّر أنقرة موقفها، انطلاقاً مما تمليه قيمها من تعاطفٍ مع الشعب السوري، أم مما تعود به عليها خطواتها المقبلة من تحسّن في أوضاعها الخارجية والداخلية واقتصادها؟ من التسرّع تقديم رد نهائي على هذا السؤال، ولا بد من انتظار إجابة تركيا عليه في وقت قريب، وإن كنت أميل إلى الاعتقاد بأن أنقرة ستتمسك، في علاقاتها مع روسيا، بعديدٍ من مفردات موقفها السابق لإسقاط السوخوي الروسية، لكي لا تبدو مهزومةً من جهة، ولأن حل مشكلاتها مع بعض تنظيمات الإرهاب، المنخرطة في الصراع السوري، يفرض عليها اعتماد أهدافٍ وآليات عمل حيالها، مغايرة لما اعتمد من أجل تسوية مشكلاتها مع روسيا وإسرائيل من جهة أخرى، علما أن علاقاتها مع الدولتين لا تتداخل مع أوضاعها بطريقة وكثافة تشابك علاقاتها مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، التنظيم الراغب في تفكيك دولتها القائمة، و”داعش”، المصممة على تأسيس دولة خلافة على ترابها.

ومع أن هناك علاقة لا يجوز إنكارها بين حل مشكلات أنقرة مع البلدين، ومشكلاتها مع حزب العمال الكردستاني و”داعش”، فإنه يبقى للمشكلات الأخيرة قدر من الاستقلال الذاتي، يحتم معالجتها، بوصفها مشكلاتٍ تخضع لاعتباراتٍ وحسابات خاصة، لا ينفصل فيها المفيد عن القيمي.

لم تفعل تركيا شيئاً واضحاً إلى الآن في هذه النقطة، ويبقى ما ستفعله غامضاً، ويصعب التنبؤ به، علماً أن خطوتها الروسية/ الإسرائيلية، وما سينجم عنها من تحسّن محتمل في موقعها من أميركا وحلف الأطلسي، ستسهم في تقييد هوامش حركة التنظيمين المعاديين وخياراتهما، سواء فيما يتصل بعلاقة “العمال الكردستاني” مع أميركا، أم فيما يتصل بتحسين قدرة الجيش التركي على تغيير معطيات صراعه مع داعش، خصوصاً إن تصاعد دوره في الحرب ضد الإرهاب، كما هو متوقع.

تحفل علاقة تركيا مع أميركا بالتباساتٍ تجعل من الصعب تقديم تفسيرٍ مقنع لما يعتورها من عيوب واختلالاتٍ، تبدو غير منسجمة مع علاقات دولتين حليفتين. وإن كنت أعتقد أن تبدل موقف واشنطن من تركيا يرجع إلى تراجع حاجتها إليها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وما ترتب عليه من تبدلٍ فقدت أنقرة، بسببه، مكانتها في استراتيجية البيت الأبيض البلقانية والقوقازية، وزاد الطين بلة تفكيك يوغسلافيا، وتموضع القوة الأميركية المباشر في منطقة البلقان التي لم يكن لها فيها حضور من قبل، في حين حوّل حكم حزب العدالة والتنمية سياسات أنقرة إلى مشكلة أميركية، أنتجها ما أبدته الأردوغانية من حساسيةٍ مفرطةٍ في كل ما يتعلق باستقلاليتها وتاريخية رسالتها وتطلعاتها العابرة لحدودها، وما نجم عن رفضها سياسات أميركا العراقية، وتلبية مطالب أميركية ألمح الرئيس باراك أوباما إليها في حديثه مع الصحفي غولدبرغ، واتهامه أردوغان “بالاستبداد والضعف ورفض القيام بدور جسر يربط الشرق الإسلامي بالغرب، واستخدام جيشه الضخم لإنهاء المشكلة في سورية”.

إذا كانت تسوية علاقات تركيا مع روسيا وإسرائيل تعني العودة إلى ماضٍ كان قائماً، فإن ترميم علاقات أنقرة مع واشنطن تتطلب الذهاب إلى مستقبل يكتنفه كثير من الغموض وعدم الثقة، يجب إرساؤه على نمطٍ من العلاقات، يضيف مفرداتٍ جديدةً على ما هو قائم الآن بينهما، ويعيد إنتاج مصالحهما في حاضر العالم الراهن، بعد تخليصها مما لم يعد مفيداً، وكان مقبولاً في الماضي.

تمتلك تركيا ورقة قوية، يمكنها أن تحسن بواسطتها وضعها مع واشنطن، هي نظامها الإسلامي وموقعها من حلف الأطلسي، على الرغم من أنها ربما تتفاهم مع روسيا حول تخليها عن جوانب من علاقاتها معه، وقد تسعى إلى إقامة علاقات متوازنة بينها وبينه، بالتفاهم مع موسكو، تفكّ بواسطتها الطوق الذي تضربه أميركا والحلف حول الأخيرة، مع ما سيمثله ذلك من زلزال يصيب استراتيجيات الغرب، وتبدل خطير في موازين القوى بينه وبين عالم الشرق عموماً. هذه الورقة، إن لعبتها أنقرة، ردّت بقوة على باراك أوباما الذي يرى أنها لم تعد تلك الدولة المهمة، لأسباب كثيرة، منها ضعف روسيا الهيكلي في جميع الميادين، باستثناء الميدان العسكري، وبروز قوى إقليمية كإيران، وعلى مواقف بلدان الأطلسي التي ترى فيها دولةً غير أوروبية.

إن مراجعة العلاقة مع حلف الأطلسي، مقرونة بتفاهم متبادل ومفتوح مع روسيا، سيمثل تحولاً هائل الأهمية للأخيرة، وللسياسات الدولية، ستزيده أهمية مبادرة تركيا إلى إقامة علاقات خاصة مع جارها الشمالي الذي سيجد نفسه في موقع قوة، ستعزّزها قوة تركيا الاقتصادية، وتطوير تفاهمها مع إسرائيل الذي يفتح الباب أمام تأسيس مركز قوة إقليمي/ دولي يفقتر الغرب إلى ما يعادله في الشرق الأوسط والبلقان، خاصرتي الأطلسي الضعيفتين نسبياً، يمتلك الجيش التركي والروسي والإسرائيلي قوة ضاربة، لا تستطيع واشنطن القفز عنها أو تحديها.

يكون هذا الخيار الذي يبدو اليوم خيالياً ومستبعداً دوما انقلابياً، وشديد الخطورة على جانبي الأطلسي، وسيبدأ معه تشكيل بيئة تستطيع تقييد همينة واشنطن في مواقع مفصلية بالنسبة لها، وتغيير علاقة الغرب بالشرق. هل تقدم تركيا على خطواتٍ في اتجاهٍ كهذا، قد يدفع تبنيها له واشنطن إلى الرد عليها في مجالها الوطني/ الداخلي، عبر تعزيز دعمها حزب العمال الكردستاني و”داعش”، أم إن تركيا، وقد تحسّن وضعها، ستفضل الانحناء أمام الكبار والعودة إلى خيار “صفر مشاكل”، الذي أعلنه رئيس وزرائها الجديد هدفا مباشرا لها، تتفادى من خلاله معارك لا تتوقف نتائجها على خياراتها؟.

بقيت نقطة أخيرة تتصل بعلاقة تركيا مع المسألة السورية عامة، والمعارضة السورية بصورة خاصة، في لحظةٍ صارت تتطلب تقييد قدرة أميركا على تحويل تضحيات السوريين ودمائهم إلى صفقات رابحة، مع ما يقتضيه ذلك من إعادة نظر في علاقات الأطراف السورية معها، وخصوصاً منها المنخرطة في الثورة، ويتطلبه من دعم تركي/ عربي، يمكّن هذه الأطراف من إعادة بناء نفسها، والتكور على ذاتها، لامتلاك قدرات سياسية/ عسكرية، تكبح بواسطتها أعداء الشعب السوري، وفي مقدمتهم النظام الأسدي. هذا البديل شرطه خروج الثورة من احتجازها الأميركي الذي يفقدها استقلاليتها، وإعادة تعريف علاقات أنقرة مع المسألة السورية، وتجديد دورها في خططها السياسية والعسكرية التي يجب أن تكون، من الآن فصاعداً، مشتركة، تعين الطرفين كليهما على التحرك الفاعل في بيئةٍ دوليةٍ متبدلة، لن تبقى صناعة أميركية، إن نجحت المعارضة وتركيا في بناء علاقاتٍ تحالفيةٍ، لها بعد تركي ودي مع موسكو، وحوار مصالح عقلاني مع طهران، يقنعها بعبثية سياساتها السورية الراهنة، وبوجود بدائل لها. أخيراً، إذا ما غطت تركيا علاقاتها مع روسيا، بتحالف حقيقي مع السعودية وقطر، تمكّنت من لعب دورٍ مؤثر جداً، يستند إلى ما يتيحه هذا التحالف من قوة ردع تجاه جميع الأطراف.

هل تُقدم تركيا على بناء علاقات تحالفية مع الثورة السورية والعرب، توازن بها ما تواجهه من تحدياتٍ داخلية، بعد أن سوّت مبدئياً بعض أوضاعها الخارجية؟ بالخطوات الأخيرة التي قامت بها، يتبدل موقع الثورة من تركيا، ويزداد أهمية بالنسبة لها، فهل تترجم هذا المستجد إلى سياسات استراتيجية الافاق، تبدّل بمعونتها الوضع القائم سورياً وإقليمياً، أم تبقى علاقاتها مع الثورة على حالها الراهنة، محتجزة ضمن توازن ميداني رجراج، ركودي الطابع، حال دون حسم الصراع ضد النظام، وأسهم في إدخال الإرهاب بقوة إلى الدولة التركية، وهدّد كيانها في جميع المجالات؟

بمصالحتها مع إسرائيل وروسيا، تفصل تركيا سياساتها العملية عن خلفياتها العقائدية/ المبدئية. إلى أي مدىً ستصل هذه السياسات، وعند أي حدٍّ ستتوقف؟. لندع المفاجآت تدهشنا، ولنأخذها في حسباننا، كما لم نفعل إلى اليوم.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى