دخلت تركيا جرابلس وهي في أضعف حالاتها، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً. فهي قد خرجت للتو من المحاولة الانقلابية الفاشلة، 15 تموز 2016، التي ما زالت تداعياتها متواصلة؛ وما زالت الحرب مستمرة بين الجيش التركي وقوات حزب العمال الكردستاني، في جنوب شرق الأناضول، منذ أكثر من عام؛ وتستمر حرب التصفيات ضد جماعة فتح الله غولن في جميع مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية (اضطرت هذه المؤسسة إلى التعاقد مع طيارين مدنيين لقيادة الطائرات العسكرية، بسبب شمول التصفيات لعدد كبير من الطيارين الحربيين)؛ والاستقطاب الاجتماعي في أسوأ حالاته بين مؤيدي الحكم ومعارضيه، مع نبذ صريح للكرد من الاجتماع الوطني، من خلال تشكيل ما يمكن أن يسمى بـ»جبهة قومية» تضم الإسلاميين والعلمانيين والقوميين المتشددين، في مواجهة الممثل السياسي للكرد، حزب الشعوب الديمقراطي. أضف إلى ذلك الإرهاب الأعمى الذي تحول، مؤخراً، إلى تهديد يومي في المدن التركية.
وليست حال تركيا، في علاقاتها الخارجية، بأحسن من حال وضعها الداخلي المتوتر. صحيح أنها بدأت تخرج من عزلتها من خلال مبادرات دبلوماسية تجاه روسيا وإسرائيل وإيران ومصر، لكنها جميعاً مبادرات من موقع الضعف، تكثفت معانيها في عملية جرابلس.
في الظاهر أن هذه العملية أعادت إدخال اللاعب التركي إلى الصراع السوري، وما قد يعنيه ذلك من أن تصبح أنقرة صاحبة كلمة في مصير سوريا، لكن الأصح من ذلك هو أن العملية ما كانت ممكنة لولا التأييد الأمريكي والموافقة الروسية (والإيرانية). حتى نظام بشار الكيماوي أخذ علماً بالعملية من خلال الروس والإيرانيين، على ما أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم. وما جعجعة النظام بشأن «السيادة الوطنية» المزعومة أو «قلق» موسكو مما يحدث في الشمال، إلا من لوازم النصب المكشوف.
عملية عسكرية محددة بضوابط دقيقة و»موافقات أمنية» كاملة من جميع القوى الفاعلة في الصراع السوري، لا يمكن مقارنتها أبداً بفرض أمر واقع جديد على الأطراف الأخرى، على ما كانت تركيا نفسها تفعل طوال السنوات الماضية، قبل التدخل العسكري الروسي. والمثال الأقرب على عمليات فرض أمر واقع جديد أو تغيير مهم في موازين القوى، هو مثال معركة فك الحصار عن حلب، التي نسب الفضل في نجاحها إلى دعم تركي مفترض، لكن ذلك لم يتأكد إلى الآن. بل إنه من المنطق استبعاد هذه الفرضية، بالنظر إلى أن تركيا كانت غارقة إلى أذنيها في ذيول الانقلاب العسكري الفاشل، لحظة بدء معركة فك الحصار عن حلب، خاصة وأن التصفيات طالت بعضاً من المسؤولين عن الملف السوري.
من يراقب الحماسة الأمريكية في دعم التوغل العسكري التركي عبر الحدود السورية، بعد فتور العلاقات بين البلدين طوال سنوات مضت، لا بد أن يتساءل عما إذا كانت واشنطن مبتهجة لعودة الدفء إلى العلاقات الروسية ـ التركية؟ وكأن إدارة أوباما كانت بانتظار هذه «النهاية السعيدة» لأزمة السوخوي لتستعيد الرضى بحليفها التركي. الواقع أن رضى واشنطن المستجد على أنقرة يتعلق، أساساً، بالانعطافة التركية في سياستها السورية، وهي انعطافة قرَّبتها إلى المنظور الروسي لهذه المسألة، ولا نعرف بعد إلى أي مدى سيكون هذا التقارب. أضف إلى ذلك تطبيع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية الذي لا يمكن إنكار أثره على الرضى الأمريكي المستجد على تركيا. وقد تجلى ذلك الرضى في زيارة نائب الرئيس الأمريكي إلى أنقرة، في اليوم نفسه الذي بدأت فيه عملية درع الفرات وتكللت بانسحاب قوات داعش من بلدة جرابلس، بعد ساعات على التدخل التركي. فمن أنقرة طلب جو بايدن من «قوات حماية الشعب» الكردية أن تنسحب إلى شرقي نهر الفرات، كما عبر عن «أسفه» لوجود الداعية الإسلامي فتح الله غولن على الأراضي الأمريكية. هذه لفتات دبلوماسية رقيقة من النوع الذي يتقنه الأمريكيون في ملاطفة «شركائهم».
السؤال الذي أخذ يتردد، بعد عملية درع الفرات، هو: هل باعت واشنطن الكرد؟
فبعد تضحيات جسيمة قدمتها القوات الكردية، في إطار «قوات سوريا الديمقراطية» في عملية منبج، ها هو الحليف الأمريكي يطالبهم بالانسحاب إلى شرقي الفرات، وكأنها أدت المهمة لمصلحة تركيا أو النظام الكيماوي (حسبما سترسو عليه الأمور وفقاً للتطورات اللاحقة) بلا حتى كلمة شكر.
الحقيقة أن الأمريكي لم يبع حليفه الكردي، بقدر ما أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الذي أوهم نفسه بمكافآت لم تعده واشنطن بها، كإنشاء ممر بري، على طول الحدود التركية، يربط بين كوباني وعفرين، أو إقامة كيان فيدرالي يحكمه حزب الاتحاد الديمقراطي على كل الأراضي التي يستولي عليها في حربه ضد داعش. على العكس تماماً، كان الوعد الأمريكي للأتراك صريحاً ومعلناً قبل بدء معركة منبج، بأن القوات الكردية ستنسحب من منبج بعد تحريرها من داعش. وهذا ما جعل الحكومة التركية تلتزم الصمت إزاء تجاوز القوات الكردية إلى الضفة الغربية لنهر الفرات من أجل تحرير منبج. أما وقد تم الأمر، فقد وفى الأمريكي بوعده وأمر القوات الكردية بالانسحاب تحت تهديد قطع الدعم.
لكن الأمريكي، بالمقابل، طلب من تركيا عدم اجتياز خط النهر شرقاً، ووقف ضرباتها للقوات الكردية جنوباً. وهكذا استعادت واشنطن موقعها الممتاز في الإمساك بجميع الخيوط بين يديها، ليتراكض حلفاؤها الصغار ويتنافسوا فيما بينهم لإرضائها.
لفتت صحيفة نيويورك تايمز إلى المفارقة التالية: إن قوات الجيش الحر المدعومة من المخابرات المركزية الأمريكية، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من وزارة الدفاع، تتواجهان في شمال سوريا بمناسبة معركة جرابلس.
يمكن سحب الكلام نفسه على حليفي واشنطن المتصارعين على الأرض السورية: تركيا أردوغان وكرد صالح مسلم.
المصدر : القدس العربي