لم ترُد الإدارة الأميركية على اتهامات روسية لها بنكث تعهد قطعته للنظام السوري قبل سنتين، مفاده عدم التأثير في عمليات قوات النظام أثناء الهجمات التي يشنها التحالف ضد داعش. بدل الرد على هذه النقطة التي أثارها المندوب الروسي فيتالي تشوركين، اتهمت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن سامنثا باور روسيا بالنفاق واستهداف المدنيين أسوة بقوات بشار، وربما يكون الصمت على الاتهام شراء لصمت روسي على التعهدات الجديدة، بخاصة بعد فضيحة التهرب من وضع تفاصيل التفاهم بين الطرفين أمام أعضاء مجلس الأمن.
ما قاله تشوركين ليس مفاجأة على أية حال، إلا للذين أغمضوا أعينهم عن نهج إدارة أوباما، أو أوحت إليهم أوهامهم بإمكانية تراجعها عن نهجها. فإدارة أوباما، عندما فكرت بإنشاء قوات سورية موالية لها، اشترطت على المنتسبين قتال داعش فقط وعدم الاشتباك مع قوات النظام، ومن المعلوم أن ذلك الشرط قد تسبب بإفشال المشروع برمته، على رغم رصد ميزانية ضخمة له بلغت نصف مليار دولار، بما يعني أن هذا المبلغ الضخم لم ينجح بشراء عدد كافٍ من المرتزقة السوريين. ومن المعلوم أيضاً أن فشل المشروع أدى إلى التوجه نحو قوات الحماية الكردية التي لا تقاتل قوات بشار أصلاً، وقد التقطت الأخيرة الفرصة للحصول على دعم دولي تظنه موثوقاً، بخلاف دعم موسكو وطهران لحزب العمال الكردستاني وقياداته في جبال قنديل، الدعم الذي لا يمكن الركون إليه فقط في مواجهة الحكومة التركية.
ثمة حدث طارئ في هذا السياق، لا ينبغي تحميله أكثر مما يحتمل، وهو قيام مقاتلات أميركية بضرب قوات للنظام في دير الزور. الإدارة الأميركية اعترفت بالخطأ فوراً، وأبدت استعدادها لدفع تعويضات. هنا يلزم التذكير بخطأ أفظع، عندما استهدفت المقاتلات الأميركية مدنيين في منبج، فلم تعتذر الإدارة عن الخطأ ولم تلتزم بدفع تعويضات، بل تنصلت بوقاحة مما حدث وعزته إلى الإحداثيات الخاطئة التي أمدتها ها وحدات الحماية الكردية. لا تكفي هنا المفاضلة غير الأخلاقية بين جنود النظام في دير الزور وأولئك المدنيين البؤساء في منبج، بل تنبغي ملاحظة طريقة التنصل التي تهدف إلى تعميق الشرخ بين العرب والأكراد.
كانت التسريبات عن التفاهم الروسي الأميركي قد أفادت أيضاً بأن إدارة أوباما قد تخلت وفقه نهائياً عن مطلب رحيل الأسد، بل تنازلت حتى عن الحد الأدنى المتعلق ببقائه خلال الفترة الانتقالية بصلاحيات بروتوكولية، وهذا أقصى تنازل وصلت إليه خطة ديمستورا على علاتها. كل الحديث الأميركي خلال سنوات عن حل سياسي تمخض أخيراً عن الضغط على المعارضة كي تفاوض على حجم صلاحيات بشار، أي أن مسلسل التنازلات عن وثيقة جنيف1 لم يتوقف طوال الوقت، مثلما لم يتوقف مسلسل التنازلات عن قرارات مجلس الأمن ذات الصلة على علاتها.
ليست الغاية حشد القرائن على ما صار مكشوفاً في نهج أوباما، فوجه الخطر لا يكمن فيما حصل حتى الآن فحسب، وإنما أكثر من ذلك فيما قد تفعله الإدارة الأمريكية خلال ما تبقى من عمرها. كان كاتب هذه السطور قد أشار إلى هذا الاحتمال في مقال بعنوان “أينجح أوباما بما فشل فيه الأسد”، نُشر في المدن بتاريخ 23/12/2014، وكان التحذير واضحاً قبل ما يقارب السنتين من تسريع إدارة أوباما خطواتها لإنهاء القضية السورية على النحو الذي لم ينجح به بشار، كما كان واضحاً تزامنُ إنشاء التحالف ضد داعش مع أكبر تنازل يُقدّم للنظام.
بعبارة أخرى، لم يُخرج الثنائي أوباما/كيري كل ما في جعبته حتى الآن، واتفاق الهدنة مع بوتين لا يعني في الواقع سوى وقف الإمدادات عن فصائل المعارضة وتركها بلا رحمة تحت طائلة الخروقات من قبل الطيران الروسي وقوات النظام والميليشيات الشيعية، على أمل أن يُجهز هذا الثلاثي على الكتلة الأساسية منها في مدة قصيرة. لا يغير في ذلك الرضا الأميركي عن تقدم فصائل معارضة مدعومة تركياً في الجبهة ضد داعش، لأن هذا المثال يحقق ما أرادته الإدارة من قبل فيما خص قتال داعش فقط. العبرة هي في الجبهات المفتوحة بين فصائل معارضة والنظام، حيث لا يخفى أيضاً الرضا الأمريكي عن تقدم قوات الأخير وحلفائه بمواكبة الطيران الروسي. ولعل زيادة استهداف جبهة حوران مؤخراً، بعدّها الجبهة التي تتحكم بإمداداتها السي آي إي من خلال غرفة الموك، يدلل على قرب إقفالها بعدما أدت المخابرات الأميركية دورها على أتم وجه!
لندع اللاعبين الصغار جانباً، القرار الأميركي هو الذي أبقى على بشار في السلطة حتى الآن، ويعِد بإبقائه رغماً عن السوريين وعن قوى دولية وإقليمية جرى تهميشها. التحدي الأكبر في الأشهر الأربعة الأخيرة من عمر أوباما في البيت الأبيض هو مواجهة إصراره بإصرار أكبر على التقليل من الخسائر، إذ يُفترض عدم الوقوع في وهم الانتصار في هذه المكاسرة. لقد رعت إدارة أوباما خلال أول سنتين من الصراع معادلة “لا غالب ولا مغلوب”، قبل الانقلاب عليها تدريجياً لصالح النظام، والآن أكبر انتصار يمكن إحرازه هو النجاة من تثبيت غلبة النظام على كافة المستويات، السياسية والحقوقية والعسكرية. التعويل على عجز الإدارات الأميركية في أشهرها الأخيرة لا يصح في حالتنا، فالملف السوري لا يندرج ضمن الملفات الاستراتيجية الحساسة، وهذا ما جعل يد أوباما طليقة فيه طوال الوقت.
لا آمال كبرى على الإدارة الأميركية القادمة، لكنها قد تكون أقل التزاماً ببقاء بشار من الحالية، ولا يُستبعد أن يستخلص الرئيس الجديد العبرة من سلفه، فإذا فشل أوباما رغم كل ما فعله لإنقاذ بشار قد لا يكون هذا الرهان مغرياً لخلفه. لقد اتهمت المعارضة دائماً النظام وحلفائه والقوى الدولية بالتسويف واستهلاك الوقت، الآن أفضل ما يمكن عمله هو استهلاك الوقت بالطريقة ذاتها ومنع أوباما من دخول التاريخ كصانع إسرائيل ثانية في المنطقة.
المصدر : المدن