ما الذي يدفع المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى الحديث عن الاتفاقيات الدولية التي وقعتها تركيا عقب الحرب العالمية الأولى في هذا التوقيت؟ هل هو التطلع إلى استعادة أراضٍ خسرتها تركيا وقتها، أم لمنع تكرار لوزان ثانية؟
دعا الرئيس أردوغان، قبل أيام، مراراً إلى مراجعة اتفاقية لوزان عام 1923، التي رسمت حدود تركيا الحالية، ولسان حاله يقول إن تلك الاتفاقية لم تكن انتصاراً لتركيا، كما كان يقول مؤسس الجمهورية التركية، أتاتورك، فهذا، وأنصاره من بعده، كانوا يقولون إن اتفاقية لوزان هي التي أنقذت تركيا من اتفاقية سيفر التي أقرّت في ثلاثةٍ من بنودها حق إقامة دولة كردية في جنوب شرق تركيا، وكذلك إقامة كيان أرمني على ما يسمى حالياً أرمينيا الغربية. في الواقع، ينبغي القول إن مرحلة ما بعد لوزان انتهت إلى قضيتين مهمتين، على صعيد الحدود الجغرافية للدولة التركية.
الأولى: اتفاقية أنقرة عام 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق، والتي قضت بتبعية الموصل لسيادة العراق التي كانت تحت سلطة الانتداب البريطانية. والثانية: سلخ منطقة لواء اسكندرون عن سورية عام 1939، وضمها إلى تركيا، باتفاقٍ مع سلطة الانتداب الفرنسي. على الرغم من هاتين القضيتين التاريخيتين، في علاقة تركيا بكل من سورية والعراق، لم تطرح قضايا الحدود كإشكالية سياسية مع البلدين، طوال العقود الماضية، خصوصاً وأن تركيا، بعد الحرب العالمية الثانية، انضمت إلى الحلف الاطلسي، واتجهت غرباً، بحثاً عن العصرنة والتحديث، وابتعدت عن منطقة المشرق العربي، إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، وبدأ ينفتح على العالم العربي، من بوابة الروابط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والهوية الحضارية للمنطقة.
اليوم مع حديث أردوغان عن لوزان، مندفعاً بالموقف العسكري في سورية، بعد عملية درع الفرات وسيطرة الجيش التركي والفصائل السورية المسلحة على عشرات الكيلومترات في شمال سورية، والإصرار التركي على الوجود العسكري في شمال العراق، بعد أن تحولت قاعدة بعشيقة إلى أزمةٍ في العلاقات التركية – العراقية، خصوصاً في ظل الإصرار التركي على المشاركة في عملية تحرير الموصل من داعش، والرفض القاطع لبغداد. في ظل هذا كله، يحمل حديث أردوغان عن اتفاقية لوزان دلالات كثيرة، لعل أهمها أن هذا الحديث يأتي في ظل تحولات مهمة على الأرض، تجسّدت في التدخل العسكري التركي البري في شمال سورية، والحديث الدائم عن توسيع دائرة هذا التدخل، وسط صمت روسي وإيراني، ما يفتح شهية التدخل التركي، من دون الحديث عن مدد زمنية للانسحاب، ما يعني فتح الباب أمام هذه القوات، للبقاء طويلاً، كما حصل في شمال قبرص عندما غزتها القوات التركية عام 1974.
ثانياً، ترى تركيا، بحكم وزنها الإقليمي والعسكري، أن جملة التطورات والظروف الجارية تسمح لها بالتحرك عسكرياً لصوغ مستقبل المنطقة من جديد، ففي الحالة العراقية مثلاً، نجد أنها تطرح قضية الموصل قضية تركيةً تاريخيةً، من بوابة الدفاع عن السنة والأقلية التركمانية، وهي تستند، في ذلك، إلى فقرات من اتفاقية أنقرة عام 1926، من دون الحديث عن هذا البعد علناً، متجاوزةً أن قضية الموصل باتت من التاريخ، وهي من شأن السيادة العراقية، ولعل هذا ما يفسّر الإصرار التركي على المشاركة في معركة تحرير الموصل، وسط لهجةٍ نديةٍ من العراق، فاندلعت أزمة سياسية بين بغداد وأنقرة، وصلت إلى حد التلاسن الشخصي بين أردوغان ورئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، على الهواء مباشرة.
ثالثاً، تتزامن التحركات العسكرية والسياسية التركية هذه مع دعوة أردوغان المؤرخين الأتراك مراراً إلى إعادة كتابة التاريخ التركي، خلال حقبة الحرب العالمية، ودراسة الاتفاقيات التي جرت من جديد، ولعله يريد من دعواته هذه مسح الغبار عن تاريخ تلك المرحلة، والخروج بأجندة سياسية لصالح رؤيته عام 2023، تلك الرؤية التي تمهد لتركيا جديدة على إرث جمهورية أتاتورك. وتحمل مثل هذه الرؤية الجديدة مقومات (العثمانية الجديدة)، هوية لتركيا، بدلاً من الهوية العلمانية الوطنية التي أسّسها أتاتورك.
رابعاً، ثمّة من يرى أن أردوغان يدرك أن التطلع إلى خارج الحدود وإعادة رسم الحدود الجغرافية التي رسمتها الاتفاقيات الدولية أكبر من قدرة تركيا وحجمها، فعلى الأقل إن مثل هذا التطلعات ستقابل برفض روسي وأميركي وأوروبي وإيراني، وحتى عربي. وعليه، فإن حديث أردوغان عن لوزان يندرج في إطار سعيه إلى قطع الطريق أمام احتمال تكرار لوزان ثانية، باتت تخشاها تركيا بعمق، خصوصاً في ظل توتر العلاقات التركية – الأميركية، وبروز تحالف أميركي – كردي من بوابة الحرب على داعش في سورية والعراق، وما أعطى هذا التحالف مشروعية سياسية للحركات الكردية التي رفعت من سقف مطالبها القومية على وقع التطورات الدراماتيكية الجارية في المنطقة، والتلويح بإقامة دولة كردية مستقلة، ستكون تركيا المتضرّر الأكبر منها على المدى البعيد.
مع استمرار عملية درع الفرات، وتواصل معركة تحرير الموصل، والحديث عن قرب معركة الرقة، يحاول أردوغان وضع لوزان على طاولة السياسة، مساراً موازياً للتطورات العسكرية، مع أن تركيا ليست بعيدة عن دائرة النار المشتعلة في خرائط المنطقة.
المصدر : العربي الجديد