نعم فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية للدولة الأعظم في التاريخ. كلنا أخطأنا التقدير. كل شركات استطلاع الرأي أثبتت أنها لا تحسن قياس اتجاهات الرأي العام الحقيقي وليس المتخيل.
جريدة «النيويورك تايمز» أخطأت أيضا عندما تنبأت بأن نسبة نجاح هيلاري كلينتون تصل إلى 84% مقابل 15% لترامب. حتى محطة فوكس نيوز، الأقرب إلى كونها المتحدث الرسمي باسم حملة ترامب، ظلت تعتقد أن هيلاري ستفوز بفارق 4 نقاط حتى بعد بداية عد الأصوات. كل دور البحث والمحللين والصحافيين أجمعوا على فوز هيلاري وأثبتت الوقائع أنهم كانوا مخطئين.
وأعترف أيضا بأنني كنت من جوقة المبشرين بفوز هيلاري، ليس في الأيام والأسابيع الماضية، بل منذ فوز أوباما بالدورة الثانية. فقد كتبت في مقال نشرته في هذه الصحيفة في نوفمبر 2013 تحت عنوان «النساء يحكمن العالم والرئيس القادم للولايات المتحدة سيدة». وسنحاول، كغيرنا، أن نقدم فهما موضوعيا لهذه المفاجأة ونعدد بعض الأسباب التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض.
أولا- لعبت الحملة الانتخابية السلبية دورا كبيرا في تشويه المرشحين معا. فصورت فوكس نيوز وأخواتها هيلاري بأنها مخادعة وعلى استعداد أن تبيع مبادئها بثمن بخس من أجل تحقيق حلمها، كما أنها انتهكت القانون عندما كانت وزيرة للخارجية ويجب أن تودع السجن لا أن تصبح رئيسة البلاد..
أما ترامب فقد صورته وسائل الإعلام بأنه ملياردير أهوج وعنصري، ومتهرب من دفع الضرائب وخبرته في السياسة الخارجية لا تتعدى لقاءات مع رجال أعمال أجانب لعقد الصفقات. كما أنه يطلق الكلام على غاربه ويكيل الاتهامات للجميع، ويعتقد أن هناك مؤامرة يحيكها أوباما وكلينتون ضده. كما أنه لا يفقه إلا في الأعمال والصفقات. عنصري ضد المرأة ويحتقرها ويعتقد أن كل امرأة قابلة للانصياع له لأنه مشهور وغني.
إذن كانت معركة انتخابية هي الأقبح في تاريخ الولايات المتحدة بين مرشحين كلاهما مثقل بالعيوب. الإعلام جعلها تفوز قبل أن تفوز وجعله يخسر قبل أن يخسر. وهذه الأجواء أحبطت الكثيرين وآثروا ألا يشاركوا في الانتخابات ليصل عدد غير المشاركين في الانتخابات إلى نحو 80 مليون ناخب.
ثانيا- رغم أننا نعيش في هذه البلاد منذ أربعة عقود إلا أننا لا نتعامل حقيقة مع الشعب الأمريكي الأصلي والنقي، وأقصد الغالبية الساحقة من الشعب الأمريكي الذين ينتمون إلى العرق الأبيض المتحدر من أصول أوروبية ويشكلون 70% من مواطني هذه البلاد.
الأقليات بمجملها تعيش في المدن الكبرى المختلطة مثل نيويورك وشيكاغو وسان فرنسيسكو وديترويت وكليفلاند وأورلاندو وفيلادلفيا وليس في قلب الولايات المتحدة. فمدينة نيويورك مثلا تشكل الأقليات غالبية سكانها وكذلك ضواحيها.
وكجالية عربية نذهب إلى طبيب فلسطيني ومطعم لبناني ومحام أردني ومحاسب قانوني سوري ونتناول ساندويتش الشاورمة ونقرأ الجرائد العربية المنتشرة في المحلات ونأخذ امتحان رخصة قيادة السيارة باللغة العربية. أما المساجد فقد انتشرت في هذه المدن بشكل كبير فلا تكاد تجد حيا أو بلدة صغيرة أو متوسطة الحجم إلا وبها مسجد أو اثنان ويلحق بها مدارس عربية وإسلامية كثيرة جدا..
فكيف ندعي أننا نعرف كيف يعيش الأمريكيون في ولايات الوسط والجنوب والشمال، خاصة مناطق السهول الوسطى مثل أيوا ونورث دكاتو وآيدهو وأركنسا وميسوري ويوتا وغيرها. هؤلاء لا يحتكون في حياتهم اليومية بالأغراب من ذوي البشرة السمراء إلا نادرا. هم بسطاء غير مثقفين ويعملون ليل نهار لسد حاجاتهم اليومية.
يعيشون على المحاصيل الزراعية أو الصناعات. وقد فقد ملايين منهم وظائفهم بعد إغلاق آلاف المصانع الصغيرة والمتوسطة فألقوا اللوم على اتفاقية التجارة الحرة التي رحلت الوظائف والمعامل إلى المكسيك. كان خطاب ترامب يصل هؤلاء ويلقى كل الآذان الصاغية التي تحرك فيهم عنصرية ضد الغرباء وكرها للحزب الديمقراطي الودود مع الغرباء. ولذلك كان حشدهم لدعم ترامب سهلا. كان هؤلاء من صنع المفاجأة. وما لا نعرفه أن خطاب التحريض يلقى لدى هؤلاء كل ترحيب خاصة في غياب الخطاب البديل، وفي ظل أوضاع اقتصادية صعبة بعد تراجع الأسواق العقارية وعجز الملايين منهم عن الاستمرار في دفع أقساط بيوتهم فاستولت عليها البنوك.
رابعا- يبدو أننا لم نحسن تقدير العنصرية التي أججها انتخاب رئيس أسود لأول مرة. وهذا الرئيس، بالنسبة لهم، خطف أمريكا التي يؤمنون بها وحولها إلى أمريكا الأقليات والمهاجرين والسود والمثليين، ولم تعد أمريكا النقية للعرق الأبيض. يقول المحلل الأسود، فان جونز عن نتائج الانتخابات «إن هذا رد فعل عنيف حول محاولة تغيير البلاد. إنه رد فعل العرق الأبيض على انتخاب رئيس اسود» .
فما زال تيار قوي في الحزب الجمهوري والشارع الأمريكي العادي يؤمن بأن أمريكا من حق الرجل الأبيض الغني المتحدر من أصول أنغلوساكسونية وذي عيون زرقاء وشعر أشقر ورقبة حمراء. حساسون من وجود الأجانب والمهاجرين والأقليات ويعتقدون أن نقاوة أمريكا مهددة من هؤلاء الأغراب الذين يحولون البلاد إلى تجمع أقليات لا حول للأبيض فيها ولا قوة، ولذلك عليهم مسؤولية إنقاذها. في عهد أوباما تمكن المثليون من استصدار قانون بحق الزواج، وأصبح الإجهاض أمرا سهلا وتمكن المسلمون أن ينشروا مساجدهم في كافة الولايات، وأن يقوم متطرفان شيشانيان من ضرب سباق المارثون في بوسطن ومتطرفان باكستانيان من تنفيذ عملية دموية في برناردينو ومتطرف أفغاني بقتل العشرات في ناد ليلي للمثليين في مدينة أورلاندو.
في عصر أوباما تمكنت المرأة من احتلال أرفع المناصب والمساواة في الأجور واحتلال ثلث المناصب الوزارية. وإدارة أوباما، كما يرى هؤلاء، هي التي شجعت السود لإطلاق النار على الشرطة، وهي التي تحاول جاهدة نزع أسلحتهم الفردية التي يحمون بها عقاراتهم وعائلاتهم. إذن «لا بد أن يكون إما مسلما أو شيوعيا»، كما قال لي جار عجوز ألتقي به أحيانا في مكتب البريد وعندما يراني يسرع إليّ ليتحدث عن مؤامرة لتدمير أمريكا ينفذها أوباما. ثم يقول هؤلاء ألم يكفنا ثماني سنوات من حكم أوباما ويريد أن يمددها لسنوات أربع أو ثمان أخرى… إذن لنقطع عليه الطريق، فخرجوا بالملايين يصوتون لدونالد.
خامسا- كنا نعتقد أن الرجل الأبيض تجاوز عقدة السيطرة على من يحق له أن يشارك في الانتخابات، بعد أن اقتحمت المرأة عام 1921 الصناديق، ثم أضيف السود عام 1965 بعد توقيع الرئيس لندن جونسون حق المشاركة للجميع. الرئيس نكسون ألغى كافة القيود التي تقف أمام النساء في ممارسة الرياضة، فما هي إلا سنوات وإذا بالمرأة تقتحم كافة المجالات من ريادة الفضاء إلى وزارات السيادة الأساسية. أما أن يصل الرئاسة رجل أسود ثم تأتي بعده إمرأة فهذا ما لم يقبل به بعض القطاعات المحافظة، خاصة في الولايات الوسطى والجنوبية. «فهل تعتقدون أننا سنتحمل ثماني سنوات أخرى بقيادة سيدة بعد ثماني سنوات للرجل الأسود ثم يأتي بعد ذلك ربما رجل من المثليين ويدخل البيت الأبيض هو وزوجه ؟». أهذه أمريكا التي طهرناها من السكان الأصليين لنسلمها لهؤلاء الغرباء؟ هذه مهزلة يجب أن تتوقف. 240 سنة من السيطرة الذكورية لا نريد لها أن تنتهي… لذلك سنضع رجلا في البيت الأبيض يتعالى على النساء وينظر إليهن من علُ ويعاملهن بدونية.
سادسا- هيلاري غير محبوبة. وقد قال 70% من الناخبين من كل الأطياف إنهم لا يثقون بها وإنها تمثل المدرسة الكلاسيكية في السياسة القائمة على الخداع والنفاق، فقد صوتت للحرب على العراق وعادت وانتقدت الحرب وكانت ضد زواج المثليين وغيرت موقفها وأنكرت أي خطأ في استخدام موقع وزارة الخارجية لبريدها الإلكتروني الشخصي ثم عادت واعترفت واعتذرت.
سابعا وأخيرا- الطريقة التي تعاملت بها هيلاري مع ثورة بيرني ساندرز والطاقة التي أثارها في قواعد الحزب والمستقلين والليبراليين أقل ما يقال فيها إنها سياسة نفعية وغير مبدئية. لقد تم إقصاؤه أو احتواؤه بطريقة لم تقنع أنصاره الذين يعدون بالملايين. ترك بعضهم العمل التطوعي مع ساندرز ولم يحولوا جهودهم لصالح هيلاري، بل أقسم بعضهم أنهم لن يصوتوا لهيلاري. وبعد تأييد ساندرز لهيلاري في مؤتمر الحزب نأت بنفسها عنه ما ضاعف من إحباط أنصاره وباعدهم أكثر عن هيلاري. ولو أنها اختارته نائبا للرئيس إذن لنقلت الحماسة والطاقة والأمل إلى الثنائي كلينتون- ساندرز ولضما ملايين الشباب والفتيات الداخلين إلى ميدان السياسة لأول مرة.
لقد تركت الحملة الانتخابية شرخا كبيرا داخل الحزبين الكبيرين وداخل المجتمع الأمريكي وستكون مهمة ترامب الآن أن يعمل على المصالحة ورأب الصدع الكبير الذي كاد يقترب من حد المواجهة بين أنصار المرشحين. نحن ننتظر أن يغير ترامب خطاب الكراهية والتهديد إلى خطاب المودة والتصالح وبناء الجسور وإلا فسنبحث عن بدائل ونحزم حقائبنا ونرحل. لكن السؤال إلى أين؟ وهل هناك مكان في وطننا العربي يعطينا مساحة من الحرية أرحب من هذا البلد؟
المصدر : القدس العربي