مقالات

عمر قدور – مؤتمر آستانة: تدبير الخسائر

يدرج القول إن الفصائل التي تقاتل نظام بشار الأسد تذهب إلى مؤتمر آستانة، المقرر غداً الاثنين، تحت ضغط الحليف التركي. هذا في الظاهر. أعمق من ذلك يعلم الجميع أنها ذاهبة تحت ضغط انعدام الأفق أمام استمرار حربها الحالية، وأيضاً انسداد الأفق أمام التحول إلى نوع مختلف من المقاومة. قبل مدة برزت مطالبات ساذجة بالتحول إلى حرب العصابات، لا يدرك أصحابها صعوبة التحول من جيش شبه تقليدي تقوم عقيدته على السيطرة على المكان إلى جيش يترك السيطرة ظاهرياً للخصم، ثم إن الحديث عن عشرات الآلاف من المقاتلين المكشوفين والمعروفين للخصم لا يستوي مع أنماط الحرب الخفية.

لا يكفي اختزال الخسارة بحرب المدن التي تُركت بلا حماية أمام الطيران، ولا باستخدامها من قبل إيران والنظام لإحداث تغييرات ديموغرافية هائلة، وقد لا تكفي الإشارة إلى أسلوب السيطرة الذي اتبعته الفصائل. توقّف الحرب من دون هدفها المعلن يعني فوق ذلك كله انحسار التأييد الذي نالته هذه الفصائل على خلفية الحرب، ووضعها تحت المساءلة، تماماً على المنوال الذي يُقال فيه إن توقف الحرب الآن سيضع النظام أمام أسئلة مؤيديه.

أشيع أن المؤتمر سيخوض في بند وحيد هو وقف إطلاق النار، وعليه استُبعدت المعارضة والهيئة العليا للتفاوض. إلا أن وفد النظام سيرأسه ديبلوماسي هو مندوبه في الأمم المتحدة، ومن المرجح أن يقابله ممثل عن الفصائل كان كبير المفاوضين في جولة سابقة من مفاوضات جنيف، وحينها اعترض الأول على وجود الثاني بوصفه عسكرياً لا يحق له ترؤس وفد سياسي. هي مفارقة لا أهمية لها، سوى بدلالتها على اختلاط المستوى الأمني بالسياسي لدى النظام، وبنظرة الأخير إلى المحادثات على أنها كتلة متكاملة، لا محادثات تقنية فحسب.

جدير بالذكر أن النظام أخذ على المعارضة السياسية في جنيف 2 عدم امتلاكها القرار في الميدان، ما يجعلها فاقدة القرار فعلياً، وتبدو المفاوضات الآن ترجمة لتلك المقولة بالتحاور مع أصحاب القوة الفعلية على الأرض. وجدير بالذكر أن النظام قبيل آستانة عرض على فصائل وادي بردى وبيت سحم نوعاً من المصالحة تبيّن رؤيته لاستيعابها، من دون حلها أو القضاء عليها. مجمل ما تنص عليه مسوّدات المصالحة هو الإبقاء على الفصائل شرط «محاربة الإرهاب» والتبعية اسمياً له، وعودة رموز النظام إلى المناطق الخارجة عن السيطرة (مثل العلَم وعدد محدود من القوة الأمنية)، مع نوع من تقاسم السيطرة المحلية.

تلك كانت أيضاً فكرة المصالحات التي بدأتها إيران قبل التدخل الروسي المباشر، وكانت ضمن خطة متكاملة تهدف في النهاية إلى توسيع صلاحيات الإدارات المحلية مع الاحتفاظ بالصلاحيات الأمنية والعسكرية للمركز. وعلى رغم معارضة بعض النظام حتى للخطة الإيرانية السابقة، فإنها كانت تُفرض من قبل طهران، مثلما يُفرض مؤتمر آستانة على ذلك البعض الذي يطمع بإعادة الأمور كما كانت تماماً قبل آذار (مارس) 2011، ربما مع اشتداد أقوى لقبضة النظام.

لا بأس بــأن نتذكر أن إدارة أوباما قد شرعت بإنشاء فصيل سوري يقتصر على قتال داعش، وعندما لم تجد تجاوباً انتقلت المقاولة حينها إلى الميليشيات الكردية. ويمكن القول إن الفصائل التي تقاتل داعش تحت مــسمى «درع الفرات» إحياءٌ للفكرة الأميركية بإشراف تركي ورضا موسكو أولاً، ثم مشاركة الطيران الروسي في تغطية بعض العمليات. وواضح غياب النظام عن أجندة تلك الفصائل واقتصار قتالها على داعش والميليشيات الكردية، بينما لا تخفى عدم ممانــعة النظام القضاء على أحلام الميليشيات الكردية بالسيطرة على الشمال السوري كله.

استرجاع مجمل هذه التوجهات قد يكون ضرورياً لفهم سقف مؤتمر آستانة وما يليه، فهناك تقاطعات جلية ترسم ذلك السقف السياسي للعملية برمتها، وإذا كانت العملية قد فشلت سابقاً بدءاً من المستوى السياسي فهي الآن تختبر إمكان النجاح بدءاً من المستوى العسكري. مثلاً طُرحت من قبل، بموافقة المعارضة ضمن سلة متكاملة، فكرةُ دمج الفصائل مع قوات النظام لمحاربة الإرهاب، الآن هناك محاولة شبيهة بدأت على الأرض من دون المرور بتسوية سياسية كبرى، المراهنة هي على تسويات صغيرة هنا وهناك في الإطار نفسه، مع منح سلطات محلية للمنخرطين فيها على حساب التسوية النهائية من فوق. حتى النظام، وقد فقد المقدرة البشرية على السيطرة على الأرض، عينه على عشرات آلاف المقاتلين الذين عجز عن الانتصار عليهم وحده، وهناك تيار داعم لفكرة «المصالحات المحلية» يريد تسخير هؤلاء لمصلحته، بعد الاضطرار إلى استقدام المزيد من الميليشيات الشيعية والاستعانة بسوريين تجاوزوا السن اللائقة للخدمة العسكرية. بالأحرى، يريد هذا التيار جعل تلك الفصائل من النظام من دون تعديل فيه.

ما يشجع على التقدم في هذا الاتجاه، فضلاً عن الخسائر التي تُوّجت بخسارة حلب، تفضيل النظام وداعميه تقديم تنازلات مناطقية بالمفرّق على تقديم تنازلات حقيقية تطاول بنية النظام، وقد لا تكون هناك ممانعة حتى من تقديم رشاوى أيديولوجية لبعض الفصائل الإسلامية. من دون إساءة ظن، هناك بين الفصائل المنخرطة في العملية، أو ربما تلك التي تنتظر موقتاً، كتلة معتبرة لا تقيم وزناً لمسائل كالديموقراطية وحقوق الإنسان، فوق تلك التي ترى الديموقراطية بدعة أو كفراً، هذا هو أيضاً الاستحقاق الذي يريد النظام وداعموه التخلص منه.

في هذا السياق تبرز تجربة انتخاب مجلس محلي في محافظة إدلب التي يسيطر عليها «جيش الفتح»، حيث مُنعت النساء من التصويت، إذ لم تعمد الفصائل المســيطرة خلال سنوات إلى السماح بمــثل هذه التــجربة، عليه من المستبعد إجراء عملية الانتخاب لو كانت مقبلة على موقعة كبرى كانت تلوح في الأفق. إلا أن ضم هذه الانتخابات إلى المرحلة الثانية من التسوية المقترحة، وهي تنص على وجود مجالس محلية، قد يفسّر إجراءها مؤخراً.

لا شك في وجود عقبات عدة أمام تقدم هذا السيناريو، سواء من طرف قسم من النظام وطهران أو من طرف بعض الفصائل، لكن تحقيقه ليس مستحيلاً تحت مختلف الضغوط. قابلية هذه التسوية للحياة والاستمرار غير مهمة، على الأقل بالمقارنة مع قدرتها المتوخاة على وأد فكرة الثورة تماماً.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى