من علائم انحطاط عالمنا وخراب القيم الذي نشهده في أيامنا، أن يتزامن صدور تقرير منظمة العفو الدولية المعنون بـ»المسلخ البشري» مع «عملية سياسية» تقودها روسيا بهدف إنهاء الحرب الدائرة في سوريا منذ سنوات. عملية سياسية سقفها «حكومة وحدة يقودها نظام الأسد» المسؤول عن المسلخ المذكور، على ما نص عليه قرار مجلس الأمن 2254. في حين تعمل روسيا على خفض السقف المذكور، قدر المستطاع، بحيث يكون أقرب إلى التطابق مع «سقف الوطن» الشهير بلغة إعلام نظام المسالخ والبراميل والسلاح الكيماوي، أي: نعل حذاء النظام إذا جاز التعبير.
سيمر تقرير منظمة العفو الدولية عن المسلخ البشري، حالياً على الأقل، مثلما مر قبله تقرير «القيصر» الفظيع المزود بـ55000 صورة لجثث من قتلوا تحت التعذيب، ربما بتعبير الأمم المتحدة عن قلقها الشهير، وببعض تصريحات الاستنكار من «المجتمع الدولي». فهذا هو «سقف» قيم هذا المجتمع الغارق في هواجسه بشأن «الإرهاب» واللاجئين والانتخابات التي تأتي باليمين المتطرف إلى بعض دوله، من غير أن يتساءل عن أسباب هذه الظواهر ومسببيها.
وستمضي روسيا في إنكارها لمسؤولية النظام الذي تحميه عن الفظائع الواردة في تقرير الأمنستي وغيرها من التقارير التي تصدر بكثرة، ليس فقط تبريراً لحربها على سوريا دفاعاً عن النظام المجرم، بل دفاعاً عن نفسها لأن حكم بوتين لا يختلف عن حكم نظام الأسد إلا بفارق عدم مواجهته لثورة شعبية كما في سوريا. وقبل ثورة آذار 2011، كان النظام السوري مطابقاً على العموم، في ممارسته وفلسفة حكمه، أشباهه من الأنظمة الفاشية في روسيا وكوريا وكوبا وغيرها من الفاشيات الدموية. الجديد النوعي، بالنسبة لسوريا، هو في مواجهة النظام لتمرد شعبي واسع النطاق تطلب منه توسيع دائرة القمع وتعميق وسائله من حيث الشناعة.
وفي ماضي هذا النظام «نموذج أصلي» سار على هديه في تدمير البشر والحجر، هو نموذج تمرد 1980-1982 الذي قمعه نظام حافظ الأسد بوحشية بالغة بلغت كلفتها عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف المتضررين بمختلف الدرجات. ويشكل سجن صيدنايا الذي يتناوله تقرير منظمة العفو امتداداً لتقليد سجن تدمر الصحراوي، سواء من حيث معاملة المحتجزين أو مصائرهم. فقد كتب وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، في مذكراته، عن المحاكم الميدانية التي كان يصادق على قرارات الإعدام الصادرة عنها «بالعشرات كل أسبوع» في تلك الحقبة السوداء من تاريخ سوريا. ما كان محصوراً، في زمن الأسد الأب، في بضع مدن أهمها حماة المكلومة، وفي غضون سنتين، عممه الابن على كامل مساحة سوريا ولست سنوات قابلة للاستمرار. وما كان يجريه حافظ في الخفاء من فظاعات، يقوم به بشار علناً تحت أنظار الإعلام و»المجتمع الدولي» إياه.
التفاصيل الواردة في التقرير الجديد، فظيعة حتى بالنسبة لأشخاص عاشوا تجربة الاعتقال السياسي لسنوات طويلة أيام الأسد الأب، ربما باستثناء ما تعرض له قسم كبير من السجناء الإسلاميين بعد تمرد الثمانينيات. فهناك ممارسات تعبر عن حقد شديد على من يقعون بأيدي الأجهزة، يجردهم من إنسانيتهم ليصبح كل ما يفعل بهم مبرراً، بدءاً من الإذلال والتعذيب الجسدي والنفسي وصولاً إلى القتل بأشد الوسائل فظاعة. من أمثلة ذلك قيام الجلادين بتعذيب سجناء سينفذ الحكم بإعدامهم بعد ساعات قليلة. الجلادون يعرفون مصير من يعذبونهم، وبرغم ذلك يتلذذون بالتنكيل بهم قبل أن يخطفهم الموت من بين مخالبهم!
في أيامنا، كنا نشكو من عدم معاملة النظام لنا كمعتقلين سياسيين من المفترض أن تكون معاملتهم متميزة عن السجناء الجنائيين. بل إننا، في فترات التشدد، كنا نطالب بمعاملتنا مثل معاملة السجناء المجرمين، على غرابة ما بين المطلبين من تناقض. فهؤلاء المذكورون كان لهم، على الأقل، الحق في المحاكمة التي كنا محرومين منها لسنوات طويلة، وفي ظننا أن القضاء مهما كان جائراً قد ينصفنا بعض الشيء. وفي مطلع التسعينات، بعد مضي نحو عقد من السنوات على اعتقال معظمنا، تم تقديمنا فعلاً إلى القضاء ممثلاً بمحكمة أمن الدولة (تغيرت تسميتها في العام 2012 إلى محكمة الإرهاب) التي حكمت على كثيرين منا بخمسة عشر عاماً، أمضى قسم منهم بقية الحكم في سجن تدمر الرهيب، حيث التعذيب اليومي جزء من تقاليده، ويتعامل الحراس مع السجناء فيه كما لو كانوا أعداء شخصيين لهم يستحقون الانتقام بشتى الوسائل الفظيعة.
ليس هذا المقام المناسب للحديث عن تجربة شخصية، لكن الغاية هي إجراء مقارنة، في جوانب معينة، بين الأمس واليوم، في مجال الاعتقال والسجن السياسي. بهذا المعنى يمكنني القول إن أصحاب التجارب في الاعتقال السياسي السابق على الثورة، يشعرون بهول ما يجري اليوم، أكثر من غيرهم، بسبب معرفتهم المباشرة بالروبوتات «البشرية» المتوحشة التي أنتجها النظام وأسند إليها مهمة تحطيم المعارضين السياسيين بجميع الوسائل. ومن جهة أخرى يحمد المعارضون السابقون الله على نعمة خروجهم من جحيم المعتقلات والسجون الأسدية على قيد الحياة، مقابل هلاك عشرات الألوف من معتقلي الثورة اليوم، إعداماً أو تحت التعذيب أو بسبب تفشي الأمراض والحرمان من الماء والغذاء والدواء، وفقاً لتقرير «المسلخ البشري» لمنظمة العفو الدولية. وأخيراً لأن المقارنة بين ظروف الاعتقال السياسي في بعض السجون، كسجن حلب وسجن دمشق المركزيين سابقاً، وظروف الاعتقال السياسي بعد ثورة آذار 2011، ستفيد بأن قسماً من معتقلي الجيل القديم كان فعلاً يعامل معاملة سجناء سياسيين محترمين ـ بمقاييس نظام الأسد المتوحش ـ بالمقارنة مع المسلخ البشري الذي يلقى فيه بمعتقلي الثورة، على رغم كل قسوة الاعتقال السياسي في جميع الحالات.
بيد أن المسلخ الذي تحدث عنه التقرير في وصف سجن صيدنايا، ليس إلا جزءاً صغيراً من مسلخ كبير يمتد على مساحة المناطق التي يسيطر عليها النظام: ليس فقط في آلاف مراكز الاحتجاز والتعذيب التي فاضت عن السجون والمعتقلات المعروفة سابقاً، بل كذلك في مبان بنيت أصلاً لأغراض أخرى كالمدارس والمستشفيات والمباني الحكومية ومواقع القوات المسلحة. وبصورة أعم حيثما وجدت قوات النظام وميليشيات شبيحته فهناك مسالخ بشرية. كلنا يذكر، على سبيل المثال، مقاطع الفيديو التي وثقت تنكيل الشبيحة بأهالي قرية البيضا قرب بانياس في الأشهر الأولى للثورة.
عالم فيه «نظام» بهذه المواصفات، يواصل قتل البشر في البلد الذي يحكمه منذ ست سنوات بأفظع الأساليب، يستحق رئيساً كترامب لأعظم دولة فيه. كما يستحق شبكة إرهابية كداعش.
المصدر : القدس العربي