كتاب عزمي بشارة “سورية.. درب الآلام نحو الحرية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013) جدلي بمعانٍ عدة، فقد كتب و”الثورة السورية” ما زالت قائمة. على الأقل هكذا ينظر لها مؤيدوها، كما أنه يحاول النظر إلى الثورة من رؤية مراقبٍ خارجي، لكن مصادره كلها من داخل الثورة ومعها، إنه يصف كتابه بأنه “محاولة في التاريخ الراهن”، وهو بذلك يقر بأنه يكتب التاريخ ولمّا ينتهي بعد، وتلك جدلية نظرية بحد ذاتها. لكن الكتاب يقر، من البداية، أن عمر الثورة أو جذرها لم يبدأ في مارس/ آذار 2011، وإنما لديها عمرٌ، وعمرٌ طويل يعود بها إلى سنوات الاستبداد الطويل في عهد حافظ الأسد، مروراً بما سماها “الفرص الضائعة” في عهد بشار الأسد.
وبالتالي، يؤرخ الكتاب للجذور العميقة التي فجرت الثورة، وحكمت ظروف ولادتها، مع إدراك كامل لحساسية الثورة السورية، وهو ما يؤكد عليه الكتاب مراراً وتكرارا منذ الفصل الأول، بالحديث عن تركيبة النسيج الاجتماعي السوري، “ويكمن ذلك في خصوصية مجتمعه، المركب دينياً وطائفياً وإثنياً، التي أعاقت تبلور هوية وطنية جامعة، تسمح بفصل المجتمع عن النظام، والنظام عن الدولة”؛ وفي الوقت نفسه، مركزية سورية في صراعها مع إسرائيل، فأي اختلالٍ في هذا التوازن سيكون له تداعيات إقليمية، وستحكم ظروف المنطقة في العقود المقبلة.
ولذلك، كان الحل، منذ بداية الكتاب وحتى نهايته، “فالثورة التي صنعت الاستقلال كانت العامل الأساس في تشكل الهوية الوطنية السورية، واليوم مع الثورة وضعت هذه الوطنية أمام مفترق طرق وخيارين: الشرخ الطائفي واتخاذ الهوية الوطنية الجديدة طابعا سنياً طائفياً، أو المواطنة الديمقراطية التي تقوم عليها هوية وطنية، غير متناقضة مع عروبة أغلبية سكان سورية وإسلامها”.
يضيف الكتاب إضافة مهمة إلى الدراسات الأكاديمية والمتخصصة بسورية، خصوصاً فيما يتعلق بالتأريخ لمرحلة مهمة من تاريخ سورية، والتأريخ للصراعات السياسية والاجتماعية خلال الثورة السورية، ولذلك ربما يعتبر من الكتب المرجعية كتاب باتريك سيل “الصراع على سورية”، والذي يعد السيرة الشخصية الوحيدة للرئيس الراحل حافظ الأسد، وكتاب نيقولاس فاندام عن الصراعات الإقليمية والطائفية والعشائرية خلال فترة حكم حزب البعث. وتبقى دراسات أخرى، حاولت مقارنة عمل النظام السوري بأنظمة سلطوية شبيهة، كما في دراسات هينبوش وهايدمان وحنا بطاطو و فولكر بيرتس الذي درس السياسة الاقتصادية تحت حكم الأسد. لكن، على الرغم من جدية هذه الدراسات المتخصصة، واستمرار صلاحيتها البحثية، حتى في دراسة صنع القرار في عهد الرئيس بشار الأسد، فإنها بدت متمسكةً في المدرسة السلوكية في تفسير سياسة صنع القرار في سورية، فتحليل سلوك الأسد وصفاته الشخصية وحدها القادرة على تفسير، أو على الأقل تقديم إجابات للمعضلات السياسية والاقتصادية التي واجهها الأسد.
في حين يأخذ كتاب “سورية.. درب الآلام إلى الحرية” مقاربة أخرى مختلفة كليا، قوامها البعد والتأثير المجتمعي في صنع السياسة المحلية، وهو ما وجدناه مع التأريخ للثورة السورية لحظة بلحظة، إذ يعتبر أن “هذه الثورة الكبرى سيكون لها أعظم الأثر في تاريخ سورية الحديث، وكذلك في تاريخ المشرق العربي كله، وهي، بهذا المعنى، نقطة تحول تضاهي، في أهميتها، الثورات الاستقلالية، وتفوقها تعقيداً بالتأكيد”.
والتعقيد أو درب الآلام، كما عنوان الكتاب، ينبع من أن الثورة السورية تحولت إلى أكبر معاناة إنسانية، شهدها العالم في عصرنا الحديث. وقد تحدث الكتاب، وقت صدوره، في مقدمته عن مقتل أكثر من 70 ألف سوري، وبلغت الأرقام اليوم أكثر من نصف مليون سوري على الأقل فقدوا حياتهم، وتشرد أكثر من سبعة ملايين داخل بلدهم، وأكثر من خمسة ملايين لاجئ في دول الجوار، وهو تماما مصداق ما ذكره الكتاب “كتب مؤيدو النظام السوري على الجدران في بداية الثورة “الأسد أو نحرق البلد” و “الأسد أو لا أحد”. ولم يتصور أحد أن هذه التهديدات قد تكون مقصودة حرفيا…. واتضح لهؤلاء أنهم كانوا على حق. فشعارات الجدر الجنونية كانت، كما يبدو، جداول أعمال حقيقية عند صناع القرار المصابين بالجنون”.
يستعرض الكتاب، في البداية، الفرص الضائعة في عهد الأسد الابن، فمع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، انطلقت الأسئلة دفعة واحدة، في البداية، متسائلة عن مدى سيطرة بشار الأسد على القرار السياسي في بلده، ومدى تأثير “الحرس القديم” على صنع القرار لديه، كما نشأ نوع من الازدواجية داخل حزب البعث، إذ صادف موعد انعقاد المؤتمر القطري التاسع في عام 2000 وفاة الرئيس حافظ الأسد قبل انعقاده بثلاثة أيام، لكن المؤتمر أصرّ على انعقاده في موعده المحدد، مع اختصار أيامه وتحويلها إلى مناسبةٍ “لاستذكار مكارم الأسد ومناقبه ومزاياه”. وعلى الفور، كانت استجابة النظام السياسي في سورية لانتقال السلطة على مستوى عالٍ من التنظيم والدقة في التنفيذ، ففي يومٍ واحد من 11 إلى 12 يونيو/ حزيران 2000 انتقلت السلطة في سورية بهدوء وبغطاء دستوري من الأسد الأب إلى الأسد الابن.
ثم أتت مرحلة ربيع دمشق التي عنت بداية التململ الشعبي العلني في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، مع سكون الأوضاع والأحوال اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، ثم جاء بيان المثقفين السوريين الأول (المعروف ببيان الـ 99 مثقفاً) في 27 سبتمبر/ أيلول 2000، وقد دعا البيان إلى “إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ العام 1963، وإصدار عفو عام عن كافة المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة المنفيين، وإرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي”.
كلُّ هذا نشّط الحراك الاجتماعي والسياسي، وخصوصا بالنسبة للمثقفين الذين رأَوا في ذلك، وهو ما فرض على السوريين “حماية أنفسهم من البطش” فرصةً لا تفوّت لمزيد من الضغوط باتجاه إحداث انفراجات سياسية، مع ضمانات قانونية حقيقية، وليس فقط على مبدأ النبضات أو الضوء الأخضر أو سياسة غض النظر. ولذلك بدأت المنتديات والندوات تنتشر كالفطر، كما شبهها أحد الصحافيين السوريين.
لكن هل كانت هذه الجرعات المتزايدة محسوبة ومضبوطة، لتمرير انتقال السلطة بشكلٍ سلس وهادئ، عبر إعطاء شرعية داخلية وخارجية لآلية انتقال السلطة، عندما تُبرر بالطريقة التي تمت فيها، لحملها مشروعاً لمكافحة الفساد وتحديث القوانين وإفساح المجال للمشاركة، يبدو أن ذلك هو ما كان المقصود فعلاً، خصوصا إذا نظرنا إلى آلية الطريقة التي جرى انتقال السلطة فيها عبر اصطفافات سياسية جديدة، تمت ضمن النخبة السياسية والعسكرية والأمنية الحاكمة.
ومع عودة اعتقالات نشطاء ربيع دمشق، كان الإعلان عن النهاية الرسمية لربيع دمشق الذي راهن عليه مثقفون وناشطون سوريون عديدون على أن يُثمر مناخاً جديداً من الحقوق والحريات في سورية، بعد أن كان مفقوداً منذ عقود، إلا أن هذا الرهان سقط للأسف، بالنظر إلى آلية عمل النظام السياسي في سورية التي لا تحتمل الانفتاح أو التغيير، وتصرُّ على الإمساك بجميع مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والإعلامية.
ثم يفتح الكتاب تأريخا دقيقا للثورة السورية في تفاصيلها اليومية، بالاعتماد على عدد هائل من المقابلات مع النشطاء والفاعلين الاجتماعيين الذين كتبوا تاريخا جديدا لسورية، بدءا من انتفاضة درعا مروراً بجمع الثورة وساحاتها الكبرى في حماة وحمص، ودور المظاهرات المحلية في القرى والأرياف المختلفة، في ولادة وعي سياسي جديد للسوريين، بعد عقود من القمع وانعدام الحياة السياسية بالمطلق.
ثم يخصص الكتاب فصلا يعد من أقوى الحجج المنطقية في تفسير تحول الثورة السورية من ثورة سلمية إلى مسلحة، فقد “تحول النظام إلى حالة حرب مع المجتمع”، كما تحول النظام بأعين سوريين كثيرين إلى ما يشبه “قوة احتلال”، وهو ما فرض على السوريين “حماية أنفسهم من البطش في البداية، ثم تحولوا للمقاومة بغية الردع، ثم تنظيم أنفسهم من أجل الانتصار، وضمن هذه الرؤية فقط يمكن فهم دينامية العسكرة في الثورة السورية”.
ربما يحتاج الكتاب إلى مساحة أوسع من هنا بكثير، من أجل الدخول في حوار معه، ومع الرؤية المرجعية التي حكمته، لكن بكل تأكيد يبقى هذا الكتاب أكبر موسوعة لتأريخ الثورة السورية.
المصدر : العربي الجديد