تعاني العملية التربوية التعليمية في سورية من الأزمات والتصدعات منذ عقود، وقد صارت وجهًا خطيرًا من وجوه الأزمة الراهنة. فواقع الحال يفيد بأنها تسير وفق برامج تتبع عقيدة الجهة المسيطرة ميدانيًا على مفاصل الحياة وإدارتها. وبالتالي، فإن المستقبل السوري الذي يُنتظر أن تبنيه الأجيال الجديدة ليس موحدًا وليس مشرقًا، فهذه الأجيال تنمو وتتشكل معها هويات خاصة، تحمل بذور الاقتتال والانقسام لمجتمعٍ كان، إلى فترة قريبة، يبدو مجتمعًا واحدًا يشكل شعبًا ينتمي إلى وطن واحد.
في مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، هناك تعليم إلزامي حتى الصف التاسع، للذكور فقط، يتعهد ولي الأمر خطيًا بإرسال ابنه أمام ديوان التعليم، ومن يخالف تطبق عليه الحدود المعمول بها. أما المدرسون فيوقعون على وثيقة “استتابة”: “أعلن براءتي من تعليم المناهج الباطلة والقومية والوطنية والبعثية، ومن العمل بالقوانين الوضعية والتحاكم إلى الطواغيت، وأني أخضع طواعية لحكم الله عز وجل وأرضى به، وأتعهد ألا أعصي في معروف، وألا أقاتل المسلمين، أو أعين على قتالهم بالقول أو العمل، وأن أعظم حرمات الله، وألا أتعدى على حدوده، فإن غيرت أو بدلت فيجري عليّ حكم الله عز وجل”. ويركز التنظيم على تعليم الأطفال الجهاد ومعنى القتال، في محاولة لزرع الفكر المتطرّف في عقولهم. وقد أدرجت في المنهاج مادة التربية الجهادية، ومن المواد التي تدرس أيضًا مادة التوحيد، وتتضمن أصول التوحيد الثلاثة من خلال رسالة محمد بن عبد الوهاب، ومادة اللغة العربية، وتتضمن شرحًا لألفية ابن مالك، بالإضافة إلى الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والعلوم. هذا بالإضافة إلى المدارس التطبيقية التي تعلم الأطفال من سن العاشرة على استخدام السلاح والقتال، وتعرض عليهم مشاهد الذبح والرؤوس المقطوعة.
أما المناطق الخاضعة تحت سيطرة الفصائل المنتمية إلى القاعدة، جبهة النصرة سابقًا وفتح الشام حاليًا، فهناك تداخل في إدارة العملية التعليمية والتربوية، وتنوع في الإشراف عليها، كما الحال في محافظة إدلب ومناطقها، حيث نجد مدارس تابعة للنظام، منعت المعارضة فيها تدريس مادتي التاريخ والتربية القومية والفلسفة، يقدم طلابها الامتحانات في محافظة حماة، بعد عبورهم حواجز أمنية متعدّدة المرجعيات، وأخرى تابعة لمديرية التربية والتعليم التابعة للحكومة المؤقتة، تدرس المنهاج نفسه التابع لمدارس النظام، باستثناء المواد التي تم حذفها، وأضيفت مكانها مواد جرى تأليفها تدرس بعض فترات التاريخ بطريقةٍ مغايرة، كما هناك مادة موازية لكتاب القومية، تحتوي على أقوال وصور لبعض رموز المعارضة السورية، مثلما هي كتب القومية الزاخرة بأقوال القائد الخالد أو الرئيس الحالي لسورية. تدعى الشهادات الناجمة عن هذه الهيئة بـ “شهادة الائتلاف”. وبسبب التأثير والسلطة التي امتلكتها “النصرة”، كانت تُصدر تعليمات بخصوص المدارس، ويخبر مندوب عن جبهة النصرة المعلمين بها، مثل منع الاختلاط بين الذكور والإناث في كل المراحل التعليمية، ومنع تدريس الفلسفة.
أما العملية التعليمية والتربوية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، فتجري وفق الصورة النمطية ذاتها والمنهاج المشبع بفكر “البعث”، وأقوال القائد ومادة التربية الدينية نفسها، ولم تغير السنوات الست الماضية شيئًا يذكر فيها. وكان التعليم من القضايا التي أطلقت الحكومات السورية، تحت ظل حكم “البعث”، شعارات براقة حولها، انطلاقًا من أن التعليم خدمة عامة ذات أهمية قصوى، تعود بالمنافع والفوائد إلى المجتمع، ويجب إتاحته لكل أفراد المجتمع، لتهيئتهم وإعدادهم من أجل المساهمة في البناء والنهوض وتحقيق الأهداف الوطنية والتنموية. وبناء عليه، كان التعليم إلزاميًا حتى مرحلة التعليم الأساسي، ومجانيًا متاحًا لكل أبناء الأسر السورية. وكان، في مراحله التالية حتى التعليم الجامعي، متوفرًا برسومٍ تكاد تكون رمزية، فما الذي تغير ودفع التعليم إلى بازارات الأسواق والاستثمار والاتجار فيه، طمعًا بالربح، مثل أي سلعة أخرى؟ هل تتراجع الدولة السورية عن دورها ومسؤولياتها في تأكيد الهوية والثقافة الوطنية، وتعزيز التماسك الاجتماعي، بتراجع دورها في مجال التعليم، كما باقي الخدمات الاجتماعية وتفسح المجال لرأس المال الخاص، ليهيمن على التعليم ويتاجر به متفردًا، أو مشاركًا للدولة في هذا الاستثمار، مظهراً من مظاهر تزاوج رأس المال مع السلطة، مثلما صارت سورية عليه في العقود الأخيرة؟
ولا تُغفل، هنا، ظاهرة خطيرة، هي تردّي مستوى الجامعات السورية المضطرد خلال العقود الأخيرة، فقد بات من الصعب تصنيفها حتى في خانة الجامعات غير النخبوية التي تقوم أساسًا على التدريس، واستيعاب أعداد كبيرة من الطلاب، من دون أن يكون للبحث العلمي موقع متقدم فيها، بل هامشي، أوشك أن يكون شبه معدوم. حتى هذا التصنيف الذي لا يجد له مكانًا في التصنيفات المعيارية، تردى وضع جامعاتنا عنه، وما زالت تتخذ القرارات، وتسن التشريعات، وتصدر المراسيم التي على ما يبدو تتناسب مع اقتصاد الأزمة، وتلبي احتياجاته، وليس آخرها المرسوم الحكومي الذي نص على تقسيم جامعة دمشق إلى جامعتين، وهي أول جامعة حكومية في الوطن العربي. ترجع نواتها الأولى إلى العام 1903، من خلال المدرسة الطبية بفرعيها الطب البشري والصيدلة. وفي 1923، تم دمج المدرسة الطبية مع مدرسة الحقوق التي أسست عام 1913 لتكوين الجامعة السورية. وبقيت تحمل هذا الاسم حتى 1958، حيث أصبحت تدعى جامعة دمشق. فسورية تعتبر رائدة في محيطها على صعيد الحداثة والتطوير منذ أوائل القرن الماضي. وسبق المرسوم المشار إليه تصريح على لسان وزير التعليم العالي، عاطف نداف، في 22 فبراير/ شباط الماضي، أعلن فيه عن افتتاح جامعات خاصة مسائية، ضمن الجامعات الحكومية العام المقبل. وقال إنه “اعتبارًا من العام المقبل، سيكون هناك تعليم مسائي في بعض الكليات وسيكون التعليم مأجورًا”، مبررًا أن هذا سيؤمن دخلًا للجامعة، يحسّن الواقع المادي لأساتذة الجامعة وموظفيها.
هذا القرار يواكبه ويسبقه أيضًا الترخيص المستمر لجامعات خاصة ضمن سورية، بالإضافة إلى المرسوم الذي نظم الرسوم المالية التي يجب أن تستوفى من الطلاب في الجامعات الحكومية، إن كان لجهة التعليم المجاني أم الموازي أم المفتوح، بتفصيلاتٍ كثيرة وزيادة في الرسوم، ترهق الطالب وأهله، في وقت تتردى معه الحياة المعيشية للمواطن السوري، بتردّي الأجور وانعدام فرص العمل، بسبب ما أحدثته الحرب المزمنة في سورية، وهذا ما يزيد في تضييق فرص التعليم أمام أبناء الأسر الفقيرة التي يزداد عددها باضطراد، حيث لم تبقَ في سورية طبقة بورجوازية متوسطة أو حتى صغيرة، بل صار هناك بون شاسع وفرز للمجتمع إلى طبقة ثرية تمتلك معظم رأسمال البلاد، وهي قليلة يشكل معظمها أثرياء الحرب والفساد، والشريحة الكبيرة تتكون من فقراء سورية، فقد أصبح عشرات الآلاف من الطلاب تمنعهم ظروف الحرب والتشرد والفقر من إكمال تعليمهم الجامعي، ما ستكون له انعكاسات خطيرة على المستقبل التنموي والتعليمي في سورية.
يظهر هذا الواقع حقيقة الانقسام جلية وواضحة، في الوقت الذي تثير فيه الرعب جملة “تقسيم سورية” التي يتداولها الإعلام بكثافة حاليًا. فإذا كان التعليم الذي يعتبر من اللبنات الأساسية في بناء أي دولة يتعرّض إلى هذا الكم من الانتهاك، ويُستخدم في بازارات السياسة هل يمكن الاعتماد من خلاله على بناء سليم لسورية المستقبل؟ وهل العملية التعليمية في مناطق النظام معافاة؟
هذا هو واقع التعليم في سورية، من تعليم سلطوي بامتياز، إلى بازار لتداول المال والأرباح وسلعة للاتجار به. لكن يمكن القول بحزن وببالغ الأسى، سورية المرشحة للتقسيم إلى كيانات سياسية، قُسمت وتقسم على وقع الحرب في كل لحظة، والمعلم السوري واحد من أبنائها الذين انتهكوا مع طلابهم وأماكن أداء رسالتهم، وبقي مطلوبًا منهم أن يقوموا بدور ريادي. فهل بقي نسغ في عروق السوري ليقوم بدور ريادي؟ مجرد بقائه على قيد الحياة دليل مقاومة جبارة في صراعه ضد الموت.
المصدر : العربي الجديد