هذه المرّة ثابتة، الأسد هو اليد التي تطرق الزناد الكيماوي، فيما هي كثيرةٌ الأيادي التي تحشو وتلقّم وجباته، ولعلها منظومة متكاملة متشابكة، وإن اختلفت وسائلها وطرق عملها وحجم الموارد المستخدمة في العملية، من أميركا صاحبة رسالة حقوق الإنسان، فأوروبا صانعة الحرية، إلى روسيا رمز القوى الصاعدة، ومروراً بعصابات حكم عربية، هذا الطيف المتنوع ليس سوى منظومة خطّطت ونفذت مجزرة الكيماوي بحق أطفال خان شيخون.
الرسالة واضحة، على قوى الثورة في المنطقة أن تدرك أنه لا مكان لأحلام الشعوب، ولا لأوجاعهم، حينما يتم تثبيت الإتجاهات على بوصلة المصالح الكبرى. في تلك اللحظة، كل شيء يجب أن يخرس، وعلى الجميع أن ينتظروا روشيتة الموازين الجديدة المفصّلة على مقاسات تلك المصالح، وعلى الجميع أن ينتظروا توصيفاتهم الجديدة ومواقعهم، والأدوار التي سيناط بهم العمل عليها.
في السياسة، كل الأمور تقاس بميزانٍ من ذهب، هوامش الخطأ معدومة، وخصوصا إذا تعلّق الأمر بتقييم سياساتٍ جارية، وليست محتملة، تماماً مثل السياسات التي يطبقها بشار الأسد على جسد السوريين بالحديد والنار، وبما أن لكل تصريح أو موقف سياسي تداعيات مقابلة، فإن أميركا التي أعلنت أن إسقاط الأسد لم يعد أولوية، وأوروبا التي شجعت واعتبرت ذلك تطوراً مهماً في السياسة الأميركية لصالح الواقعية، والأنظمة العربية التي تباكت على عدم حضور بشار الأسد قمة البحر الميت، هؤلاء جميعاً بعثوا رسالة واضحة لأخير فحواها: مسحنا كل جرائم الماضي، كما أنك في حل من المسؤولية عن كل شيء يمكن ارتكابه في المستقبل.
لم يحصل في تاريخ الحروب أن تّم إصدار رخصة لطرفٍ في قلب المعركة، تتيح له حرية الحركة والفعل، مثل الذي تم منحه لبشار الأسد. وبالتأكيد من منحوه هذا الترخيص ليسوا هواة وسذجا في عالم السياسة وسياسات التفاوض. وبالتأكيد يقدّرون أنه سيكون لمواقفهم ترجمات موازية في ميدان الصراع، والمنطقي إذا كان هؤلاء، أو جزء منهم، يعتبر نفسه خصماً لنظام الأسد والأطراف الإقليمية والدولية التي تقف خلفه، ألا يفرّطوا بورقة مساومة بهذه الأهمية، والطبيعي أن يستثمروها في المواجهة.
وما حصل أنّ تلك الأطراف لم تفرّط بورقة تفاوضية، تتعلق بمصير بشار الأسد، بل أنها وضعت جميع أوراقها التفاوضية في مهب الريح، إذ على ماذا سيجري التفاوض، ما دام القول إن مصير النظام ليس أولوية، وأن يجري تصوير الأمر وكأنه تصويبٌ لخطأ إستراتيجي، تراكم حتى أصبح خطيئة، وبدل أن يقوم النظام وحلفاؤه بتغيير سلوكهم، يصبح الآخرون مطالبين بإصلاح الخطأ، عبر تثبيت استقرار نظام الأسد، ما جعله يتحكّم بمصير السوريين، ويقرّر من يموت ومن يبقى حياً فيهم.
حسناً، ربما يحاجج بعضهم أنه في السياسة الدولية، وحينما تتأزم القضايا، وتصل إلى حد الانسداد، فإن الأطراف العاقلة أو الواعية تلجأ إلى مقارباتٍ مختلفة، بهدف تحقيق اختراقاتٍ معينة في جدران الأزمة السميكة، وخصوصا في ظل وجود أطرافٍ غير عقلانية في الطرف المقابل. وفي هذا الإطار، يتم التلويح ببعض الحوافز، لدفع الطرف الآخر إلى تحريك مواقفه، أو ربما لاختراق المنظومة الكلية وجر أحد أطرافها إلى هذا الطرح، يحصل مثل ذلك في محاولة صناعة الحل.
لكن، في مقابل هذا التكتيك، تبقي الأطراف الساعية إلى مقاربات جديدة على شيء من نظام الردع في المواجهة، كما تبقي أوراقها التفاوضية على الطاولة، وجاهزة للتفعيل في أي لحظة، ولو من باب أن الطرف الآخر قد يتوسّع في فهمه الحوافز إلى درجةٍ تجعل المساومة معه معدومة الفائدة. من جهة أخرى، ثمّة قضايا في الملف السوري خرجت من إطار التسويات، وأصبحت قوانين دولية، لا يصح أن تندرج في إطار الحوافز المقدمة لنظام الأسد، مثل حق الشعب السوري ألا يتم قتله بالأسلحة الكيماوية.
في قرار مجلس الأمن 2118 الصادر عن مجلس الأمن في 27 سبتمبر/ أيلول فقرة 21 ، والقرار 2209 الصادر أيضا عن مجلس الأمن في 8 مارس/ آذار 2015، فقرة 7، وردت نصوص صريحة تقول حرفياً “أي استخدام لنظام الأسد للكيماوي سيستدعي تدابير بموجب الفصل السابع”. ولا يحتاج هذا الأمر إلى شروحات وتفسيرات زائدة، إذ لن يكون لعدم تنفيذ هذا التهديد الوارد في قرارات مجلس الأمن سوى واحد من معنيين، الاستهتار والعبث في الأمن والسلم الدوليين، أو أن مجلس الأمن الدولي فقد صفته وصلاحياته بشكل نهائي، ولم يعد يشكّل مرجعيةً في ضبط الأمن العالمي.
لكن، وفي الغالب، ليس ثمّة طموح بأن تذهب الأطراف إلى حد الانتصار للحقيقة، بعد أن ساهمت جميعها بصياغة رسالةٍ لنظام الأسد، تسمح له بزيادة جرعة القتل، وإنجاز مهمة ترميد السوريين الثائرين عليه، بعد أن بات ينظر لهم بمثابة مشاغبين على إستراتيجيات الكبار، وخطر محتمل على توابعهم الإقليمية. الحسابات أكبر بكثير من موت أطفال خان شيخون بالكيماوي. في الميزان، يقع في كفة مصالح الدول، وأمن تابعيهم وسلامة الأقليات، في مقابل السوريين المعارضين للأسد، ومن سمح بقتل الملايين من هؤلاء وجرحهم وتهجيرهم لن يغص بمئات يموتون بالكيماوي هنا وهناك في سورية.
المصدر : العربي الجديد