بداية، نعترف بأننا استهترنا بما أنجزتموه، لم نقّدر حقاً قيمة تضحياتكم التي أجبرت المحتل الفرنسي في السابع عشر من نيسان (أبريل) 1946 على سحب جنوده من الأرض السورية، لم نحتف بهذا اليوم كما يليق به، خنعنا، وسمحنا للسلطة الحاكمة أن تهمشه وتلحقه بإنجازاتها وبأعيادها المتخمة بالإيديولوجية القومية والشعارات الطنانة، ثم تتوسله مناسبة، لكيل الشتائم والاتهامات ضد الأجنبي، كرأس للشرور، كي تتنصل من مسؤولياتها فيما ذهبت إليه أحوالنا وعما حل بنا من كوارث.
أنتم من قال للأجنبي كف يديك عن بلادنا، إن شعبنا هو الأقدر على إدارة شؤونها وصون مقدراتها. أما نحن فنأسف لأننا خذلناكم، ولم نصن ما أورثتموه لنا، ونرد إليكم وطناً فقد قراره الحر وبات مسرحاً لتدخلات عسكرية خارجية تتنافس على تطويع مكوناته واستثمار الصراع الدموي فيه لتحقيق مراميها، وطناً أصبح اليوم عرضة للتقسيم الجغرافي ولتنازع النفوذ، وأشبه بملكية خاصة لسلطة أنانية تسوغ لنفسها التصرف به لقاء استمرارها في الحكم حتى لو كان الخراب.
وكما ابتلينا بسلطة استسهلت دفاعاً عن سطوتها وامتيازاتها الاستقواء بحلفائها لوأد طموحات شعبنا في التغيير، لم نحظ بمعارضة على قدر همومنا الوطنية، حين سارعت بدورها لطلب العون والنجدة من أطراف خارجية مرتهنة لاملاءاتهم واشتراطاتهم، زاد الطين بلة تنامي مجموعات إسلاموية غريبة وجدت في بلدنا فرصة ثمينة لتنفيذ أجندتها المتطرفة من دون اعتبار لحقوق البشر وحرياتهم وخياراتهم.
ونعترف أيضاً بأنكم، وبعد أن وضعتم حجر الأساس لبلد حر ومستقل، كنتم تأملون من أبنائكم وأحفادكم بلورة هوية جامعة تنتج وطناً مستقراً يؤمن الجميع به، لكننا جبنّا، وأتحنا المجال، للسلطات الاستبدادية ذاتها، لتكريس العلاقات المتخلفة، الدينية والطائفية والعشائرية، على حساب الهوية الوطنية وتشجيع انتكاس المجتمع إلى روابط ما قبل مدنية، وتسخير الاستفزازات الطائفية وردود الأفعال المذهبية كي تباعد بين ثقافات طالما تعايشت وتعاضدت مع بعضها.
كم نأسف ونتألم حين نخبركم بأن سورية التي كنتم تفخرون بوحدتها وبمسار انصهارها الوطني ضد نوازع التفرقة والتمييز، والتي لم يبق فيها مكون أثني أو ديني أو مذهبي، إلا وتخلى عن حساباته الخاصة ليسابق إخوته في الحماسة والتضحية طلباً للاستقلال، سورية التي تتغنى بتنوع منابتكم، من إبراهيم هنانو إلى سلطان الأطرش مروراً بصالح العلي وحسن الخراط ويوسف العظمة وفارس الخوري وسعد الله الجابري وغيرهم، صارت اليوم مرتعاً للصراعات البينية، ولمعارك طائفية وأثنية تخاض بأشنع الوسائل وأكثرها فتكاً، مخلفة حالة من الاستقطاب الحاد والتفشي المفزع للغة الحقد والعنف والانتقام محفوفة بإصرار على إنتاج مقولات، أقل ما توصف به بأنها غير مألوفة إنسانياً، وتكشف عن توحش وهمجية غريبة عن روح الشعب السوري وتاريخه.
ويمكنكم تقدير أي درك وصلنا إليه، مع تنامي مواقف تثير الرعب تجد الآخر المختلف، دينياً أو مذهبياً، مجرد موضوع للسحق والإفناء، ومع تكرار عبارات تبدي حماسة وتشجيع على ما يخلفه العنف من دمار وضحايا وألم ومعاناة، وكأنه ليس من بنيان وطني يخرب، وليس من بشر يقتلون ويشردون، وكأن الأطفال الذين يخطفهم الموت من أحلامهم لا يحق لهم الوجود في الحياة!
والحال، إن تحويل الصراع السياسي إلى قتال طائفي وتوظيف العنف السلطوي ضد فئات محددة وتحويل المعركة معها إلى معركة وجود، أفضيا إلى تفكيك النسيج الوطني والحض على تبلور عصبيات متخلفة تحكمها نزعات إقصائية دمرت مفهوم المواطنة ومقومات تماسك المجتمع، والأنكى قتلت غناه الإثني والديني والمذهبي بمحاولات التغيير الديموغرافي التي تجري على قدم وساق، والمفارقة أنه وبينما فشل الاحتلال الفرنسي ذاته في تطبيق مبدأ الصفاء الطائفي ببعض المناطق السورية، نجح توافق النظام وحلفائه مع بعض الجماعات الإسلاموية في اقتلاع أهالي بلدات عديدة في أرياف دمشق وحمص وإدلب والحسكة لمجرد أنهم ينتمون الى مذهب آخر أو لقومية مغايرة.
عرفنا من كتب التاريخ شدة ما تعرضتم له من قمع وتعذيب لثنيكم عن نضالاتكم من أجل الاستقلال، لكن ما حصل معكم يشبه لعب أطفال أمام ما يتعرض له أبناء الوطن على يد إخوتهم في الوطن، حتى بات البعض يترحم على أيام الاحتلال ويتساءل، إذا كانت كبرى الكبائر هي قصف البرلمان السوري من قبل الفرنسيين، فماذا نقول عن البراميل المتفجرة التي تسقط يومياً على أماكن السكن، عداكم عن السلاح الكيماوي، وتهجير نصف سكان الوطن؟ وبأي عين يمكن النظر إلى الاعتقالات والمحاكمات التي جرت على يد المحتل أمام التغييب القسري والاعتقال على الشبهة والمحاكمات الميدانية وما سرب من صور التعذيب والقتل الهمجي للسجناء؟
كان يجب أن نبشركم بأن ثمة ربيعاً عربياً حل في ربوعنا يعزز حلمكم بالاستقلال، وينجز ما صار يعرف بالاستقلال الثاني، متمماً فريضة التحرر من الاستعمار بتحرير الإنسان وإنهاء حالة الإدمان في قمعه وتهميشه، لكن قوى الاستبداد والقهر كانت أقوى، خسرنا جولة مهمة، إلا أن ما حدث حفر عميقاً في البنى الفكرية والسياسية والأخلاقية، معلناً قطيعة مع عشرات السنين من الوصاية والخوف ومن الإفراط المرير في إهانة الإنسان وإذلاله.
لا يكاد التاريخ ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر، فعندما سئل يوسف العظمة عن دافع تصديه لجيش الجنرال غورو في ميسلون وهو العارف بأن ثمة هزيمة ساحقة تنتظره، أجاب، كي لا يكتب التاريخ أن المستعمر دخل دمشق ولم يقاومه أهلها وأن ليس في سورية من دافع عن حريتها وكرامتها. وها هو الموقف يتكرر على لسان سوريين، خاضوا معركة التغيير الديموقراطي بصدورهم العارية ضد نظام مدجج بالأسلحة، في جوابهم، بنعم على سؤال، هل كنتم لتثورون إن أدركتم مسبقاً ما قد تكابدونه وما صارت إليه أوضاعكم؟
المصدر : الحياة