كانت الثورة في سوريا من قبيل المستحيل. لكنها وقعت. تحطيم الثورة وانحلال سوريا اليوم كان مستحيلاً بدوره. لكنه واقع. ولن نجد حلاً سورياً عادلاً في غير دائرة المستحيل. عن هذه المستحيلات الثلاثة تتكلم المقالة.
تشكل النظام خلال أربعين عاماً قبل الثورة على نحو يكفل امتناع التغيير السياسي. يُنسب إلى حافظ الأسد بعد انقلابه عام 1970 القول إنه لا انقلاب بعده. وبالفعل تعهّد الرجل أجهزة وعلاقات وممارسات نجحت في إقصاء الانقلاب، وبثمن باهظ أيضاً نجحت في تحطيم تمرد اجتماعي واسع في منتهى العقد الأول من حكمه. كان هذا التمرد قد تفجر بعنف حرّضه حرمان السوريين من آليتي التغيير السياسي المختبرتيْن في البلد قبل الحقبة الأسدية: الانقلاب العسكري والانتخابات الحرة. وبمقتضى النجاح في سحق التمرد تحقق للنظام الانتقال من الاستيلاء على الدولة بالقوة إلى الاستيلاء على المجتمع بالقوة، وذلك في وقائع معلومة بلغت الذروة في حماة 1982. قبل كل شيء بُنيت أجهزة أمنية مخيفة أحالت كل أشكال الاعتراض السياسي إلى مشكلة أمنية، تتفاوت معالجتها قسوة، لكن يجمعها التجريد من أي صفة سياسية. شُيدت أيضاً أجهزة إعلامية تخصصت بعبادة الرئيس ورفعه فوق محكوميه ومساعديه على نحو يلغي إمكانية أي بديل له ويؤبد حكمه.
وفي المقام الثالث جرى التساهل مع ممارسات تابعي النظام المنتهكة لأي قوانين مقررة أو أعراف اجتماعية، طالما هي لم تتعارض مع مقتضيات استقرار النظام وأمنه. جرت عملياً استباحة موارد خاصة والموارد العامة بلا حدود، وهو ما أسهم في تأمين قاعدة اجتماعية منتفعة وموثوقة للنظام.
إلى ذلك جرى تفخيخ المجتمع بالمخبرين والمخاوف الطائفية بما يُرجِّح تفجره على نفسه إن هو تمرد على حاكميه. وجرت مراكمة أوراق نفوذ إقليمية، نقلت خطوط جبهات الدفاع عن النظام إلى خارج البلد المغلق، وعلى نحو يوسع دائرة المتضررين من تغيير سوري محتمل. المسار متعرج، لم يكن مضموناً طوال الوقت، لكن الهدف المضمر وراء مجمل هذه السياسات، أعني البقاء في الحكم إلى الأبد، كان محققاً بدرجة عالية.
مع ذلك وقعت الثورة المستحيلة. والفضل في وقوع كسر الممكن هذا للسياق المعلوم: «الربيع العربي» وهو سياق ثقة بالنفس وشجاعة لا تتاح كثيراً للمجتمعات أو لقطاعات مهمة منها. وخلال عامين من احتجاجات سلمية أولاً، ثم مزيج من الاحتجاج السلمي والمقاومة المسلحة، ثم حرب مفتوحة، بدا أننا سائرون نحو إسقاط النظام. ركد المدّ منذ ربيع 2013، قبل أن ينعكس في خريف 2015 بفعل التدخل الروسي. كان الإطار الوطني للصراع انهار بتسارع بدءاً من النصف الثاني من عام 2012، ودعا النظام حلفاء وشركاء له لمواجهة الثورة، وأخذت هذه تنقلب إلى صراع طائفي، سني شيعي.
بنظرة عريضة إلى مسار أربع سنوات ونيف منذ ذلك الحين يبدو ما جرى مستحيلاً، ولا يمكن تخيّله. حزب الله قوة محاربة في سوريا. يظهر كائن دموي مستحيل اسمه «داعش» ويقيم خلافة إسلامية على مناطق من سوريا والعراق. وتصعد تشكيلات عسكرية سلفية منها القاعدة، ومنها تشكيلات تنضوي تحت الباراديغم السلفي الجهادي. وقاسم سليماني يقود حرب إيران في سوريا. وتحدث مذبحة كيميائية كبيرة، ويبتلع أوباما خطه الأحمر، ثم يتفق الأمريكيون والروس على تجريد متساهَل فيه للنظام من أسلحته الكيميائية إلى درجة أنه استأنف على الفور تقريباً استخدام غاز الكلور في قصف محكوميه، هذا قبل أن يتشجع أكثر مؤخراً ويستخدم السارين من جديد. ويحاصر النظام وحلفاؤه مناطق في البلد ويموت سكانها جوعاً. ثم تتدخل أمريكا وحلفاؤها منذ عامين ونصف في سوريا ضد «داعش». وتسيطر تشكيلات عسكرية كردية تتبع قيادة تنظيم «بي كي كي» الكردي التركي مساحات من البلد. ثم تتدخل روسيا في سوريا، وتنشئ قواعد عسكرية في البلد، وتستخدم الفيتو ثماني مرات في مجلس الأمن لمصلحة الحكم الأسدي.
وبعد أن كان رجب طيب أردوغان يتكلم بثقة عن أنه لن تكون هناك حماة ثانية في سوريا، تقع عشر حماتات، ويتراجع الرجل، قبل أن يتدخل عسكرياً في مناطق من شمال البلد بالاتفاق مع روسيا ولمواجهة توسع كردي.
كل هذا مستحيل! ولا حتى في الخيال كان يمكن تصوره وقت انطلاق الثورة. مستحيل أن يقتل نصف مليون سوري، وأن يبقى بشار الأسد رئيساً، وأن تتحسن فرصه في البقاء بعد أن قتل أو تسبب بقتل أكثر من 2٪ من محكوميه، وإصابة ما يقترب من مليونين منهم بإعاقات مختلفة، وتهجير نحو نصفهم من مساكنهم، منهم فوق خمسة ملايين (22٪ السكان) خارج البلد.
وأن يعيش نحو ثلاثة ملايين سوري في تركيا، ونصف مليون في ألمانيا، وعشرات الألوف في بلدان أوروبية أخرى خاصة هولندا والسويد وفرنسا.
مستحيل!
لكن المستحيل هو ما وقع.
ولا يقع المستحيل إلا لأن هناك قوى هائلة تنقله من عالم المحال إلى عالم الواقع. المستحيل السوري تولد عن تضافر الفعل الإيجابي الدائب لإيران وأتباعها وروسيا لمصلحة النظام، والفعل السلبي الدائب بدوره لأمريكا وإسرائيل لمنع سقوطه. هذا نادر، بل مستحيل، لكنه هو ما وقع فعلاً. وبفعل هذا التضافر الخارق تولدت قوى جبارة جداً سحقت المجتمع السوري وحطمته، وطبّعت السوريين على أن الرهيب المذهل الذي لا يصدق ممكن، وعادي. ما دام قد وقع، فلا بد أنه ممكن! لكنه وقع ليس لأنه ممكن بل رغم أنه غير ممكن. وقع بفضل قوى إرغام مهولة لم تكتف بأن تحول دون سقوط معتوه أرعن مثل بشار الأسد، بل وفرت له دون انقطاع منابر يطل منها على العالم، لم يتح له مثلها قبل الإيغال في دم محكوميه، ودعوة أجانب عدائيين إلى مشاركته وليمة الدم. ليس هذا عادياً، هذا بالضبط خرق للعادة.
النظام الذي تشكل حول استبعاد آليتي التغيير اللتين سبقت الإشارة إليهما، الانقلاب والانتخاب، ثم التف على الآلية الثالثة، الموت الطبيعي، بالتحول السلطاني وإقامة سلالة حاكمة مالكة، واجتهد مع شركائه في تحطيم آلية التغيير الرابعة، الثورة، وجد آلية التغيير الخامسة، التدخل العسكري الدولي، تعمل لصالح بقائه في سوريا اليوم أمريكا وروسيا في آن، ومعهما إسرائيل، وإيران والسعودية، وتركيا و»بكي كي كي»، والجهاديين السنة والجهاديين الشيعة، و… بشار الأسد. مستحيل!
فهل هناك حل في سوريا يعتمد منطق الممكن المبتذل مثل هذا المعتمد في جنيف ومشتقاتها؟ ولا بحال من الأحوال. لم يبق بشار الأسد لأن بقاءه هو الممكن، بل رغم أنه مستحيل، وذلك بفعل تلاق استثنائي على بقائه. ولم تُحطّم الثورة لأنه أمكن للنظام تحطيمها، ولكن لأن الفعل المتعاضد لأمريكا وإسرائيل وروسيا وإيران وتركيا و»بي كي كي» والسعودية وقطر، وجانحين متسممين دينياً من عشرات البلدان، حقق المستحيل. عملية جنيف تسعى وراء حل مبتذل لمشكلة مستحيلة. لن تنجح.
ولأن المستحيل، وليس الممكن، هو الواقع، فإن الامكانيين، المعارضة الرسمية بتشكيلاتها كلها، تخرج من السياسة والفعل السياسي. أليست خارجهما أصلاً؟
أساس الحل في سوريا هو التخلص من القتلة العامين. هل هذا مستحيل؟ وهل الممكن هو التخلص من بعض القتلة المنفلتين والإبقاء على قتلة منضبطين بإشراف قتلة نافذين عالمياً؟ لكن هذا الممكن لن يؤدي إلى غير أوضاع متعفنة لا مخرج منها، ولا تعد بغير انحلال عام (كما في فلسطين اليوم).
تغيير الواقع المستحيل وحده هو ما يمكن أن يؤسس لحل سوري عادل. تغيير الواقع اسمه ثورة. وفي كل مرة تفكر أي قوى محلية أو دولية بحل يصون فرص سوريا في البقاء لا بد أن تهتدي إلى وجوب تحقق التطلع الأول للثورة السورية: تغيير جوهري للبيئة السياسية في البلد، أي طي صفحة الحقبة الأسدية.
ليس فيما تقدم ما يعكس انحيازات سياسية أو إيديولوجية ذاتية. إنه وصف لمستحيل وقع، ومحاولة بناء استخلاص منطقي منه: لا وجه معقولاً لتوقع أن يوفر الممكن حلاً مُنصفاً لما صنعه المستحيل بالقوة طوال أكثر من 2000 يوم. لا تنتمي السياسة إلى مجال المنطق؟ صحيح، لكن سياسة يناقضها المنطق يمتنع أن تكون مثمرة. من شأن سياسة يؤازرها المنطق، بالمقابل، أن تجتنب على الأقل خداع النفس وهدر الجهد والكرامة في بهلوانيات لن تثمر عن شيء.
لم يتحقق مستحيل الثورة ثم تحطيمها بمعجزات أو على يد قوى غيبية، تحقق بجهود بشرية هائلة. وبجهود بشرية دائبة يمكن لسياسة أخرى أن تثمر: نبني القضية السورية وننظم قوانا المشتتة ونصر على أهدافنا التحررية.
المصدر : القدس العربي