شبّ جيلنا في الأقطار العربية المختلفة على مجموعة من المخاوف كان من بينها إمكانية قيام دولة كردية مستقلة، ذلك أننا كنا نتصور أن قيامها سيكون خصماً طبيعياً من حسابات الوطن العربي ومكانته، وكنا ننكر على غيرنا من القوميات الأخرى التي تعيش بيننا أن تبحث عن هويتها الذاتية ومكانتها المتفردة. وعلى رغم تداخل التاريخ القومي بين الأكراد والعرب فإن الأمر كان ملتبساً إلى حد كبير، نعم… كانت تزورنا وفود كردية رسمية أو غير رسمية في بعض الأقطار العربية فيكون التعامل معها كـ(الباب الموارب) لا هو مفتوح تماماً ولا هو مغلق دائماً، كما كانت تتردد أحياناً بعض المقولات غير المؤكدة عن اتصالات دائمة بين الكرد واليهود، وعلى رغم الصلات الوثيقة التي تكونت بين عبدالناصر والملا مصطفى بارزاني في خمسينات وستينات القرن الماضي، فإن ذلك الهاجس استمر من دون توقف وساعدت عليه في ما بعد أجهزة صدام حسين وإعلامه الذي استمر يردد مقولات سلبية عن الأكراد لعقود عدة.
ولأن الأكراد موزعون على دول مختلفة- عربية وغير عربية- بدءاً من العراق مروراً بـسورية وتركيا وصولاً إلى إيران، إلا أن أكراد العراق تحديداً تمكنوا من تحقيق إنجاز كبير على صعيد العلاقة مع العالم الخارجي.
ووجدوا تعاطفاً من شخصيات دولية كثيرة، أتذكر منهم حالياً زوجة رئيس فرنسا الراحل فرانسوا ميتران والتي كانت معروفة بدعمها الشديد للقضية الكردية، وهنا لا بد من الغوص قليلاً في أعماق العلاقات بين العرب والأكراد على مر التاريخ:
أولاً: إن الأكراد مسلمون سنّة في معظمهم وهم يمثلون قومية مجاورة للوجود العربي، وقد اختلطت الدماء الكردية والعربية حتى أصبحنا دائماً أمام هجين مختلط من أبناء القوميتين، ويكفي أن نتذكر أن الناصر صلاح الدين الأيوبي هو كردي الأصل كانت له معارك ظافرة لتحرير القدس من المغتصبين الفرنجة، بل إنني أضيف إلى ذلك أن عناصر كردية كثيرة عاشت بيننا في الوطن العربي.
وعلى سبيل المثال فنحن في مصر نعتز بالأصل الكردي لصاحب العبقريات المفكر العظيم عباس محمود العقاد، وشاعر الشباب أحمد رامي وعائلة بدرخان في الإخراج السينمائي، بل إن الفنانة الرائعة الملقبة بـسندريلا السينما العربية سعاد حسني كانت لها هي الأخرى جذور كردية، لذلك لم يكن غريباً أن تصدر في مصر مع منتصف القرن التاسع عشر صحيفة كردية تخاطب الأكراد بلغتهم وتتحدث عن مشاعرهم وآمالهم مع أننا نظن أن الأكراد مختلفون من قطر إلى آخر إلا أن جوارهم العربي قد استوعبهم إلى حد كبير على امتداد فترات التاريخ الطويل.
ثانياً: حرص الأكراد دائماً على إثبات حسن النية تجاه شركاء الأوطان ولكن مشكلاتهم في العراق وفي تركيا كانت أوضح من غيرهما، وإذا تتبعنا الوضع الكردي في هاتين الدولتين فسنجد أنهم جزء من النسيج التركي لا يطالب بالانفصال ولكنه يسعى نحو حقوق قومية داخل الدولة التركية، وهو أمر انتهى بمأساة اعتقال عبدالله أوجلان ليقضي بقية عمره حبيساً في جزيرة صغيرة بعد أن أفلت من حكم الإعدام في إطار عملية التجميل التي سعى إليها الأتراك عندما كانوا يتوهمون أنهم قريبون من عضوية الاتحاد الأوروبي، ولقد كان تسليمه للسلطات التركية واعتقاله في إحدى دول شرق أفريقيا جزءاً من صفقة سورية– تركية في إطار شهر عسل موقت بين أنقرة ودمشق.
أما الوضع في العراق فقد كان مختلفاً دائماً حيث اكتسب الأكراد هناك تعاطفاً دولياً كبيراً وتحدد لهم إقليم بذاته يطلق عليه كردستان العراق، وعلى رغم أن الوضع بعد سقوط صدام اختلف تماماً بالنسبة إليهم فقد خرجوا من دائرة المآسي الأليمة، ويكفي أن نتذكر هنا مأساة حلبجة واستخدام النظام العراقي في ثمانينات القرن الماضي الأسلحة الكيماوية لإبادة المئات من أكراد الشمال إلا أن الاعتراف بهويتهم المستقلة بدأ بعد تحرير الكويت من غزو صدام وبداية انكماش حكمه، وعندما جرى إسقاطه في 2003 تنفس الأكراد الصعداء وأصبح هناك تقليد عراقي يعطي منصب رئاسة الدولة– ولو كان فخرياً– لممثل للأكراد كما كان الحوار مستمراً بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان حول حصة كل منهما في نفط الشمال. وقد تمكن جلال طالباني من دعم المسيرة المشتركة بين العرب والأكراد في العراق ويكفي أن نتذكر أنه عند إعداد الدستور العراقي الجديد جرى الحديث عن التعددية القومية لذلك القطر العربي الكبير وجرى اختزال عروبته في نص يقول فقط: إن العراق عضو مؤسس في جامعة الدول العربية، وكنا نتوهم أن العراق سيعيش في ظل كونفيديرالية بين أطرافه المختلفة ولو في شكل واقعي غير مقنن (De Facto)، الشيعة في الجنوب والسنّة في الوسط والأكراد في الشمال، وهو تقسيم يقوم على أساس ديني وعرقي أيضاً، إلا أن المطالب الكردية تصاعدت وأصبحت إربيل قاب قوسين أو أدنى من إعلان قيام الدولة، خصوصاً أن الأكراد حاربوا الإرهاب، حيث لعبت قوات البيشمركة دوراً مشهوداً في صراعات الشمال ومدنه التاريخية.
ثالثاً: لقد قرأت مقالاً منذ أيام عدة لكاتب كردي يبسط من خلاله بوضوح حقيقة أن المخاوف العربية من قيام دولة كردية هي مخاوف لا مبرر لها ويطلب إعادة النظر فيها كلها، مؤكداً أن الأتراك لا يمانعون في قيام دولة كردستان العراق، والعراق وسورية لا يقفان في مواجهة مع جيوش عربية أخرى، والرافض الوحيد قد يكون إيران وحدها. ومثل هذا المنطق الذي يتحدث به الكاتب الكردي يستحق الدراسة والمراجعة، فقد لا نتفق مع كل ما جاء فيه ولكننا أيضاً لا نختلف مع معظم ما ذكره، ونظن دائماً أن العرب ممثلون في جامعة الدول العربية يتعين عليهم أن ينظروا إلى الأمر من زاوية مختلفة فنحن لسنا أمام خلاف ديني أو مذهبي ولكننا بصدد قومية مستقلة ذات تاريخ طويل وخصائص ذاتية ولغة منفردة. إن تصاعد موجات الإرهاب بدءاً من مرحلة أبو مصعب الزرقاوي حتى الآن تدعونا إلى التفكير الجاد في مواجهة الإرهاب والتضامن ضده والعمل على دحره متعاونين في ذلك مع كل من يقبل بهذه المهمة التي تجسد شعوراً دولياً مشتركاً لكل من يريد الاستقرار لشعوب المنطقة والأمان لقومياتها المختلفة وطوائفها المتعددة.
رابعاً: ينبغي أن نضع في الاعتبار أن التجاور القومي بين العرب والأكراد خلق بالضرورة نوعاً من الاندماج البشري والانصهار السكاني، فقلما تجد كردياً لا يعرف العربية لأن الحياة تمضي في النهاية وفقاً لنظرية الضرورة ولا تتأثر فقط بالمشاعر والعواطف فالمصالح المشتركة هي الأبقى، كما أن العوامل الجغرافية والتاريخية تلعب دورها في هذا السياق، وسيظل أكراد العراق متمتعين دائماً بميزات لم يتمتع بها غيرهم في بقية الأقطار التي يوجدون فيها، أما الحديث عن دولة كردية واحدة تجمع شتات أبناء هذه القومية من جنوب روسيا مروراً بـإيران لتلتقي على الطرف الآخر بـأكراد تركيا وسورية لكي تجد في أكراد العراق جوهر الدولة المطلوبة وركيزتها الأساسية، أقول إن هذا الأمر صعب للغاية لأنه يتعارض مع إرادات دول متعددة في المنطقة وسيناصب الأتراك دائماً مجرد التفكير في مثل ذلك التطلع البعيد العداء مع الاستعداد للمواجهة بكل الطرق العسكرية والسياسية.
خامساً: إننا ندرك أن هناك خلافات داخلية في إطار قيادات كردستان العراق وأن الخلاف يدور حالياً حول الاستفتاء المزمع إجراؤه، ولكننا نظن أنهم قريبون من تحقيق هدفهم التاريخي ليس بسبب حماسة كل الجيران ولكن بسبب اختفاء القوى المعارضة في المنطقة بفعل تغير الأوضاع في بغداد والتغييرات الكبيرة التي أحدثها زلزال ما يسمى بـالربيع العربي، فضلاً عن أن تركيا هي دولة في حلف الأطلسي متطلعة– ولو بدرجة أقل– إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وهي منغمسة في المأساة السورية التي تتحكم فيها دول إقليمية ثلاث هي روسيا وتركيا وإيران. لذلك فإن الظروف الدولية والإقليمية تبدو مواتية لإعلان دولة كردستان العراق، ولكن ذلك لن يتم إلا بتفاهمات واضحة وقبول كامل من القوى السياسية العراقية عموماً وسلطة الحكم في بغداد خصوصاً، لأن المصالح متداخلة كما أن الواقع الجغرافي والتاريخي يحتم ذلك.
إني أتمنى على أشقائنا الأكراد جيران الجغرافيا ورفاق التاريخ أن يدركوا أن علاقتهم بالوطن العربي علاقة عضوية تدعوهم إلى التعايش الكامل مع قضايا المنطقة والاندماج في سياساتها والحذر من محاولة أي استقطاب إيراني لا نعتقد أنه سيتحقق، ولعل الاختلاف المذهبي دينياً والخلاف الإقليمي سياسياً يدفعان بـالدولة الكردية إلى الحضن العربي الذي عاشت معه وفيه مقدرة مشاعر العرب تجاه القضية الفلسطينية والتزامهم الأصيل نحوها، وقد يتأجل قيام الدولة الكردية إلى حين ولكنها عندما تقوم يجب أن تدرك أن القومية العربية والقومية الكردية لن تكونا متعارضتين في الأساس، وليظل اسم صلاح الدين الأيوبي نقطة التقاء بين العرب والكرد في مواجهة الغزاة والطغاة والبغاة!
المصدر : الحياة