لم تأتِ من فراغ مبادرةُ المبعوث الأممي لمحادثات السلام السورية، السيد ستيفان دي ميستورا، بدعوة الأطراف السورية المنهمكة في العملية السياسية إلى «مؤتمر وطني/حوار وطني» يغطي كافة الأطراف المشغولة بالشأن السوري الذي كثر طبّاخوه.
جاءت تلك الدعوة في الفقرة الأخيرة من ورقة العمل التي تحمل عنوان «الآلية التشاورية حول المسائل الدستورية والقانونية» والتي طرحها خلال مفاوضات جنيف في دورتها السادسة، تلك الورقة/ المبادرة التي أثارت انقسامات حادة بين الأطراف المجتمعة.
وتداولت الأوساط الديبلوماسية والسياسية المحيطة بوفد المعارضة واستشارييه ما مفاده بأن قراءات البعض للورقة جاءت عاطفية و «غير منخرطة بما يكفي»، وهي العبارة التي وجهها لنا أكثر من مبعوث أممي، تارة باللوم على أداء الهيئة العليا للمفاوضات وطوراً بالدفع القوي بالوفد لتفاعل إيجابي مع مبادرة دي ميستورا، وكان منهم المبعوثان البريطاني والفرنسي وكذلك مبعوثة كندا، حتى أن بعض الأشقاء من المبعوثين العرب في مجموعة العمل الداعمة لمّحوا الى عدم الرضا عن الموقف المتشنّج للهيئة حيال الورقة.
أما البعض الآخر، الذي يُنعت بالراديكالية الثورية كحالي أنا، فقرأها بسياقها الاستفزازي المتجاوِز للعرف الديبلوماسي، وبباطنيتها أيضاً، وذلك من حيث الإقحام والزج بها ضمن جولة تفاوضية لا تزيد على ثلاثة أيام تكاد أن تكون الحد الأدنى لبحث أولي لما كنّا قد اشتغلنا عليه من المسارات أو السلاّت الأربع، في تحضير بحثي كثيف وتراكمي انتظمنا من أجله، هيئة ووفداً ومستشارين، في حلقات بحثية حول الانتقال السياسي، والانتخابات وآلياتها، والإطار الدستوري، واللجنة الأكثر حساسية التي تتعلق بحوكمة الأمن ومكافحة الإرهاب وبناء الثقة التي اخترت العمل ضمن مجموعتها.
وإن كان من حق المبعوث الأممي تقديم المبادرات الميسِّرة لخطو العملية التفاوضية العسير، وأن وثيقة الآلية الدستورية التي أطلقها في اليوم الأول من جولة جنيف السادسة هي جزء رئيس من ممارسته لذاك الحق، فكان الأحرى به أن يعطي الأولوية لمناقشة مبادرته الأصل التي نظمت عمل الوفد والاستشاريين المتخصصين في آلية مقبولة وبراغماتية ضمن السلات التقنية الأربع، وهي التي دعانا أصلاً لتبنّيها كتطبيق إجرائي للقرار 2254، لا أن يفاجأ الجميع بتلك الوثيقة التي سببت إرباكاً ونفوراً عند معظم من تلقاها، ما عدا عدد يسير من أعضاء الوفد، ومن المبعوثين الأممين أيضاً الذين ورد ذكرهم في بداية هذا المقال.
ومع افتراضي لحسن النيات لدى السيد دي ميستورا ورغبته الحقيقية بتسريع العملية التفاوضية المصابة بأعراض «الشيخوخة المبكرة»، فقد كان للفصائل العسكرية الممثلة في جنيف من جهة، وللشارع السوري من أخرى، رأي راديكالي أيضاً فيها. فقد علقت بعض الفصائل مشاركتها للاجتماعات الرسمية إثر إطلاق الورقة، وعزت ذلك الإجراء إلى أسباب ثلاثة أصدرتها في بيان رسمي وتشير إلى «عدم وضوح المرجعية والتخطيط في اتخاذ القرار، وعدم وجود استراتيجية تفاوضية، وطبيعة العلاقة بين الهيئة العليا للتفاوض والوفد المفاوض الرئيس التي لا تصبّ في مصلحة الثورة».
وقد وقّع ممثلو تلك الفصائل على البيان وهم: فرقة السلطان مراد وفيلق الشام وجيش الثورة وجيش اليرموك وحركة تحرير وطن وتحالف قوات الجنوب وجيش أحرار العشاير والجبهة الشامية، وأغلبهم أعضاء في وفد المعارضة المفاوض.
أما على مستوى الشارع السوري فأطلق الحراك الشبابي الثوري، ممثلاً بنشطائه ومنظماته المدنية، عريضة الكترونية حملت عنوان: يسقط المندوب السامي، اعتبروا فيها أن ما طرحه دي ميستورا ليس إلا انقلاباً سافراً على التفويض الممنوح له من قبل الأمم المتحدة والذي يُلزمه أن يكون محايداً لا متداخِلاً، ووسيطاً لا وصياً، كما نضحت به بنود الورقة. وأشارت العريضة إلى أن المبعوث الخاص لسورية يمنح نفسه صلاحيات توازي صلاحيات مندوب سام حين يقحم نفسه في مشاورات حول المسائل الدستورية والقانونية بذريعة «الحيلولة دون وقوع فراغ دستوري أو قانوني في أي مرحلة خلال عملية الانتقال السياسي»، وبمعزل عن المفاوضات، بينما تتم «إحاطة» أطراف المفاوضات لاحقاً بنتائجها.
وبالنظر إلى كل ما تقدّم وسواه نخلص إلى أن تلك الحرب الصفراء على الأرض السورية فرزت، في ما فرزت، أمراء سياسيين متعددي الجنسية، وعابرين للقارات والمؤتمرات، هم أشد خطراً على المستقبل السوري من أمراء الحرب أنفسهم. وأن أمراء السياسة الجدد سيشكّلون المعطّل الأقوى لأي مشروع انتقال ديموقراطي حقيقي شفاف وعادل يطمح إليه السوريون بعيداً من التبعية والمكابرة أو المقامرة بالرصيد الوطني على طاولة دي ميستورا المسدّسة الأضلاع.
المصدر : الحياة