التقينا، نحن مجموعة من المثقفين السوريين المشرّدين في مقهى صغير في إسطنبول. اتفقنا، بناء على اقتراح أحدنا، أن نخصّص بعضاً من أوقات لقاءاتنا، لمناقشة قضايا أخرى غير القصف الروسي، وبراميل ابن حافظ الأسد، واستبداد المتطرّفين الذين ساهموا في إجهاض الثورة. تطرّقنا، ليلتئذٍ، لظاهرة “البكاء” وجذرها الثقافي المتمثل بوقوف الشاعر العربي القديم على أطلال حبيبته، وتغزّله بسخام الأثافي، وأعمدة البيوت المخلعة، وبرادع الحيوانات، وبعر الآرام، والحرادين التي تمطّ رؤوسها، لتتفرّج على الشاعر المسكين، وهو واقف، مجهش بالبكاء.
تساءل أحد الحاضرين ببراءة: لماذا لا يَسمح أهلُ المرأة للشاعر بزيارتهم في وضح النهار؟ وإذا هجروا الديار، لماذا لا يُعْلِمونه بوجهتهم، أو يعرضون عليه فكرة الإقامة بينهم، طالما أنه يحبّ ابنتهم، وهي تحبه، وناقتُها تحبُّ بعيرَه؟
رد عليه أحدُ الحاضرين مستنكراً: خرّبت بيتنا بهذا الكلام، فلو كانت الأمور كما تقول لما عرفنا ثلاثة أرباع شعراء الجاهلية وصدر الإسلام والعصرين، الأموي والعباسي، وعصور الانحطاط، ولا كان العشاق العذريون كتبوا أجمل الأشعار.
قلت: هذه المناقشة تقترب مما كتبه أرنست فيشر عن ضرورة الفن، وتتلخص في أن المجتمعات التي تخلو من الصراعات والتناقضات والحالات الشاذّة ينحسر فيها الفن. وهي، في كل الأحوال، فرضيةٌ طوباويةٌ، فنحن، في الواقع، لا نسمح لشاعرٍ أحبّ ابنتنا أن يَعْبُرَ عتبة منزلنا، ولو على جثتنا. وللتذكير، أنا، خدّام الطيبين من أمثالكم، في سنة 1999، أخذت قصة للأديب السوري، أديب النحوي، وحولتها إلى فيلم تلفزيوني بعنوان “العاشق” أخرجه الفنان حسن عويتي، وحصل على الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة.
فكرة الفيلم الأساسية أن شاباً اسمه ديبو الشمام، من حارة شعبية في حلب، أراد أن يتزوج فتاة يحبها وتحبه، على طريقة الأفلام المصرية، رافضاً مبدأ الخطوبة التقليدية، وكان أن خرجت والدتُه وعمّته تبحثان له عن فتاة من هذا القبيل، ولكنهما كانتا تتعرّضان للزجر والإهانة وأحياناً للضرب من أهالي الحارة، مع جوابٍ صريح جداً وهو: أنتم أسرة طيبة، وناس أوادم، وابنكم على رأسنا وعيوننا، فإذا كنتم تريدون ابنتنا للزواج، فأهلاً وسهلاً ومرحباً، ولكن بشرط: من دون حب! وأحياناً كانوا يتحدّثون على طريقة الشبيحة، حينما كانوا يدوسون على المتظاهرين، ويقولون لهم: بدكن حرية؟ فيقولون لأم ديبو وعمته: بدكن حب؟ حبكم البرص إن شاء الله.
وقلت للزملاء الحاضرين: قد يظن بعضكم أنني خرجتُ عن موضوع البكاء. أبداً، وإكراماً لخاطركم، سأحكي لكم حكاية جرت أحداثها في الثمانينيات. وقتها حضرتْ إلى المركز الثقافي في إدلب فرقة موسيقية غنائية، قدّمتْ أغاني ودبكات لها علاقة بفلسطين التي تتعرّض لبطش الآلة العسكرية الإسرائيلية. اعتمدت الفرقة في فقراتها الغنائية ودبكاتها على الميلودراما التي تجعل الحجر الأصم ينتحب. أذكر أنني عاتبتُ مدير المركز الثقافي آنذاك على استقدام هذه الفرقة التي بَطَحَتْنا في فراش المرض يومين، من فرط ما بكينا ونحن نشاهدها، فقال لي: بالعكس، لقد قدمت لنا الفرقة أشياء مؤثرة جداً، وأنا بعيني رأيت المحافظ وهو يبكي.
ضحك أحدُ الأصدقاء الحاضرين، وهو من محافظة إدلب، وقال: صديقنا خطيب يقصد المحافظ زيد حسّون. كان لدينا، يا أصدقاء، محافظٌ من النوع الذي يشبه المال الذي دُفِعَتْ عنه الزكاة، فهو: لا يغرق، ولا يَحترق، ولا يَصدأ، ولا يتخّ.. زيد حسون لا يضحك، ولا يبتسم، ولا ينفعل، ولا يسافر، ولا يحصل على إجازة، ولا يعمل، ولا يفكر بأي مشروع ينفع البلد، وإن عُرض عليه أي مشروع نافع كان يضعه في الدرج وينام عليه. فإذا كانت تلك الفرقة الموسيقية قد أبكته، فهذا يعني أنها تستحق جائزة أوسكار مقابل مقدرتها العجيبة على الإبكاء، علماً أن بقاء زيد حسون محافظاً لإدلب على طول الخط أمرٌ، بحد ذاته، يبعث على البكاء.
المصدر : العربي الجديد