يعد الدخول في الحرب أسهل بكثير من الخروج منها. وكثيرون ممن يقرّرون الدخول في الحروب، حركات أو دول، لا يضعون تصوراً واضحاً بشأن كيفية الخروج منها، ولا تشمل استراتيجياتهم الأولية استراتيجية للخروج. لذا تعد أعقد حلقات إنهاء الحروب هي مرحلة وصول أحد الأطراف، أو الأطراف جميعها، إلى مرحلة الرغبة في الخروج. وقد يساعد في وضع خطة الخروج شعور جميع الأطراف بالإنهاك اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً أو جميعها.
نجد اليوم في سورية أن جميع الفواعل الإقليمية والدولية تسعى إلى وضع استراتيجة للخروج. ومع تعدد الأسباب الدافعة لكل فاعل، سوف يعمل كل منها على تعظيم مكاسبه، وتقليل الخسائر أو تعويضها على أفضل تقدير. وقد تبدو الفصائل السورية أضعف هذه الفواعل، على الأقل نظرياً، لأن ثمة اتفاقيات بين اللاعبين الكبار دارت في الغرف المغلقة بعيداً عنهم. لكن، لا تزال هناك أوراق يمكن للفصائل استخدامها، أهمها وجودها داخل الأراضي السورية، وإن قلت المؤازرات المادية والعسكرية لدفعهم نحو قبول المتفق عليه.
وفي كل الأحوال، سيكون قبول “المتفق عليه”، من دون إدراك ما تملكه الفصائل مجتمعة، وليس متفرقة، فشلا يضاف إلى فشلهم في الاستفادة من كل مساحات التحرّك التي كانت بين أيديهم في وقت سابق، بسبب ضعف الخيال السياسي، وإدراك الحال والمآل والرغبة في الرقص منفرداً!
جزء من المتفق عليه سيكون إرغامهم على قبول استراتيجية الخروج لكل اللاعبين، بما فيها هم وما يمتلكونه فعلياً على الأرض. لكن في المفاوضات، دائماً هناك مساحة لتغيير أبواب الخروج، إذا كان لديك إدراك لما يمكنك القيام به في الداخل ومدى الرغبة الملحة للآخرين في الخروج و”الآن”.
على الأقل، لا تزال مدينة إدلب منطقة خالية من قوات الأسد ومنطقة وجود للفصائل. وعلى الرغم من سيطرة هيئة تحرير الشام على مناطق استراتيجية فيها، لا يزال لباقي الفصائل مساحات للفعل، بما فيها المساحات التي تسيطر عليها الهيئة. إدخال إدلب في التفاوض على استراتيجة الخروج مع الأطراف الإقليمية والدولية يعني فقدان الفصائل إمكانية العمل في المستقبل، بشكل مستقل.
حتى مع وجود هيئة تحرير الشام فيها، لا يمكن أن يحدّد طريقة التعامل معها أطراف إقليمية، بل لا بد أن يكون أمراً داخلياً تقوم به الفصائل مجتمعة، باستخدام الإمكانات الإقليمية، وليس العكس، والحديث حول الخوف عليها من مصير الرّقة، أو الموصل، هو علامة على وقوع المفاوض فريسةً لتهديدات المفاوضين الآخرين، من دون إدراك لعجزهم عن القيام بذلك الآن.
بشأن هيئة تحرير الشام، فإنها تشكلت من مكونات متناقضة، جمعتها الرغبة في السيطرة والمكانة، وليس الأيديولوجيا في المقام الأول. فإن جاز الحديث عن أن مكون جبهة النصرة ينتمي إلى الأيديولوجيا القاعدية، على الرغم من ضرورة الحذر هنا من التعميم، فلا يمكن أن نرى فصيل نور الدين زنكي قاعديا ولا جيش الأحرار الذي انفصل عن حركة أحرار الشام، وهذا يصح أيضاً على معظم مكونات الهيئة. لذا شهدنا مع بروز اختلاف حقيقي في الأهداف خروجا، في وقت مهم، لحركة نور الدين زنكي في يوليو/ تموز الماضي، بذريعة “بغي” الهيئة على حركة الأحرار، على الرغم من أن الهيئة بغت على فصائل أخرى في وقت سابق، ولم يعترض زنكي على ذلك، أيضاً، مع خروج التسريبات الصوتية لبعض قيادات الهيئة بشأن رؤيتهم لأدوار المرجعيات الدينية “الشرعيين” عندهم أدت إلى تصدّعٍ لا يزال مستمراً في الأعمدة الرئيسية لتنظيم الهيئة وصورتها، وأصبح لمن يريد الخروج مسوغ ديني يمكن تفهمه. وهذا يعني أن التنظيم يحتاج استراتيجة للخروج، يمكن أن يصممها من في داخله أو يساعد في تصميمها القريبون منه، أو الفصائل المقبولة شرعاً في الفضاء الجهادي في إدلب بشكل خاص، وفي سورية عموما.
لكن الواقع يخبرنا أن أبو محمد الجولاني، القائد العسكري للتنظيم، وصانع القرار الفعلي له، لن يقوم بهذه الخطوة. وتخبرنا الدراسات التي أجريت على قيادات المليشيات أن القيادات لا يمكنها أن تقبل بحل تنظيماتها، على الرغم من وجود المعطيات الواقعية التي تدفع إلى ذلك، خصوصا إذا كانت لهذه التنظيمات موارد اقتصادية، توفر لهم رفاهة أو/ ومكانة بشكل أو بآخر. هنا يتبني قائد المليشيا “الكل أو لا شيء”، أو بمعنى آخر “الكل أو الهاوية”، وتتحول هذه من كونها فكرة إلى استراتيجية سيُعمل على تحقيقها، حيث يتماهي في شخصه مع التنظيم، وسيرى أن انتهاء التنظيم يعني انتهاءه شخصياً.
في السياق نفسه، يجد المحلل لشخصية الجولاني، المتخيلة والحقيقية، أن هذا الرجل من هذا النوع، فانتماؤه للفكر القاعدي يجعله يرى أنه “الحق”، أو على الأقل يمتلك “الحق”، وبالتالي “الأفضل”، وليس “من بين الأفضل” لقيادة المشهد برمته. وحتى مع تحركّاته “البراغماتية”، المتأخرة والفاقدة للفاعلية، من الانفصال عن القاعدة ل “سرينة” جبهة النصرة في “فتح الشام”، ثم في كيان “هيئة تحرير الشام”، كان يرى بأفضليته قائدا للجميع، وبالتالي كان تفكيكه فصائل، والقضاء على أخرى، حتى أن وصوله إلى قرب الإجهاز على الحركة المنافسة له (أحرار الشام) كان بدافع رؤيته لذاته وتنظيمه بأنه الأكثر جدارة لقيادة المرحلة.
هذا يعني ضرورة فصل باب خروج التنظيم عن الذي يمكن التفكير به للجولاني نفسه، فكما أن من أهم عقد الصراع في سورية هو “مصير حافظ الأسد”، حيث يعد موته أو الاتفاق على وضع له سيحل عقدا كثيرة أيضاً. ولكن بشكل أقل تعقيداً حل “مصير الجولاني” سيساعد في حلحلة الوضع. لكن يمكن فصله عن التنظيم.
وهذا ما تخبرنا به دراسات السلام والنزاعات بشأن أن المشكلات التي تبدو معقدة لا بد من استخدام مقاربات متعددة لفك التعقيدات. إذن، لدينا مستويان لا بد من التعامل معهما بشكل منفصل، الجولاني وأعضاء التنظيم، حيث من الممكن فتح باب الخروج لهم من خلال التعامل مع الشبكات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية المنخرطين فيها، والتي توجد في أعلى سلم أولوياتهم، عندما يفكرون في مستقبلهم خارج التنظيم الذي وفرها لهم، في سياق تمثل فيه هذه الشبكات، وما توفره من امتيازات مجال للأمان و”الاستقرار”، ولو الجزئي والمؤقت.
وبالنسبة للأيدولوجيا، أعتقد أن التسريبات ستساهم في نشر “الشك” في طهارة الأيدولوجيا المكونة للتنظيم وقدسيتها، أو على الأقل ملاءمة هذه “النسخة” من السلفية الجهادية لأرض الشام، وسيكون على الفصائل التي لا تزال تحمل شرعية في المجال العام الجهادي (مثل حركة أحرار الشام) دوراً كبيراً في ملء الفراغ وتوفير بديل فكريا متماسك. هذا لا يغني عن ضرورة إعادة التأهيل لكثيرين خارجين بانكسار وشعور بالإكراه. وسيتطلب الأمر جهداً كبيرِاً لإعادة إدماج هؤلاء في حركات أخرى، أو وضع سياسات للتعامل مع وجودهم من دون إدماج! ولكن، بالطبع سيمثلون مع أولئك المنتمين سابقاً لتنظيم الدولة الإسلامية، والفارّين من الرّقة، تحدياً حقيقياً لاستقرار إدلب والمناطق المحرّرة بشكل عام لا يمكن الاستخفاف به.
وتعد الفئة المتوقع ممانعتها أي استراتيجية للخروج لهيئة تحرير الشام، بل للحرب في سورية، في المجال الجهادي، هي فئة المهاجرين، وبشكل أكثر تحديداً المهاجرين من مصر وتونس والمغرب، فلدى هؤلاء مرارتهم المركبة، والمرتبطة بفشل التغيير في بلادهم، وخروجهم منها واستحالة وجود خيارات للعودة إليها، في ظل أنظمة قمعية، كما أن التفكيك الناعم للهيئة من خلال خروج مكوناتها الصلبة، مثل حركة نور الدين زنكي، ثم جيش أحرار الشام، ثم الانشقاقات الفردية والجماعية والفصائلية التي قد تؤدي إلى التحلل الناعم لمكون جبهة النصرة يعني أولا ضياع المشروع الجهادي المكتمل “المتمركز في مخيالهم”. ويعني ثانياً تحولهم إلى حلقات هشّة داخل المجتمع الذي يُعاد إعماره. ومع ذلك، يمكن استيعاب جنود المهاجرين داخل المجتمع، والعمل على إزالة الصور المشوهة حولهم، خصوصا لأولئك الذين لم ينخرطوا في عمليات “بغي” أو قتل للسكان المحليين.
وسيتمثل التحدي الأكبر في الأفراد الذين تولوا مناصب أمنية وعسكرية ودينية داخل الهيئة، باعتبارهم “حرّاس المعبد”. لذا سيكون مهما تطوير سياسة مناسبة للتعامل معهم، وإعادة إدماجهم في المجتمع، أو فتح ممرات آمنة لهم للخروج من سورية إلى مناطق أخرى: إما دول تقبل استقبالهم وإعادة تأهيلهم، ثم إدماجهم في مجتمعاتها، أو مناطق توتر ونزاع مثل أفغانستان والآن بورما.
وقد دلت مبادرة إنشاء جيش جامع للفصائل، وقبول ما يقارب من أربعين فصيلا لها، على أن كثيرا من أوراق اللعبة الحاسمة لا يزال في يد السوريين، إن أدركوا إمكاناتهم بشكل جماعي، ووضعوا استراتيجات للتعامل مع الفواعل الإقليمية التي تريد الخروج من “الورطة” السورية، فجولات التفاوض لم تنته بعد، ولا يمكن اعتبارها نهائية. وبالتالي، سيكون مهما تعزيز المكاسب، واختيار أبواب الخروج بما يتناسب مع السوريين، أصحاب القضية العادلة، أنفسهم بواقعية وليس بانبطاح.
المصدر : العربي الجديد