انتهت الحرب في سورية على شكلٍ مختلفٍ عما عرفته أغلب الحروب، ربما لأن الحالة السورية فريدة، ولا شبيه لها، حرب على شعبٍ طالب بالتغيير السياسي، وكانت بداية ثورته المطالبة بإقالة مسؤول أو اثنين محليين، ففي الحالة السورية لا يوجد شيء اسمه صباح اليوم التالي للحرب، الذي من الواضح أنه لن يأتي، أقله في المدى الزمني المنظور.
لكنّ ثمّة طرفاً يدّعي انه انتصر، وإن كانت تلك المزاعم تنطوي على تناقضاتٍ هائلة، ما بين ادعاء أن الانتصار تم على قوى الإرهاب، “داعش” وأضرابها، وإن كانت هذه القوى أصلاً مستدخلة على الحدث، وليست طرفاً أصيلاً فيه، كما أنها لم تكن لديها مطالب سياسية تحرج نظام الأسد، ولم تكن بالأصل في حربٍ معه، ولا مع حلفائه.
غير أن هذا الزعم بالانتصار يجري توسيع دائرته مرّة تلو الأخرى، عن طريق الأطراف الرديفة، حزب الله مثلاً، وتصويره نصرا على مكون مذهبي في المنطقة سعى إلى كسر هيمنة مكون آخر لكنه فشل، وأن الطرف الآخر (إيران وحلفاءها) يكتبون تاريخ المنطقة، فيما “المنهزمون” يحاولون، قدر الإمكان، التقليل من هزيمتهم عبر توسّلهم مكاسب هامشية هنا وهناك.
ليس سراً أن هذا الفريق (الأسد وحلفاءه) تعاطى مع الحدث، منذ بدايته، بوصفه حربا بين منظومتين، وليس باعتباره شأناً داخلياً بين الشعب السوري ومنظومة الحكم، في محاولةٍ لإخراج الأمر عن سياقه، إما لغايات تعبوية بهدف استقطاب المقاتلين لمساندة منظومة الحكم السورية وإيجاد ذريعة تبريرية، أو لإيجاد مساحة حرية للتعامل مع الحراك السوري، ورفع سقف التصعيد إلى درجات أعلى.
وكان من السهل تشكيل منظومة متماسكة وصلبة، في مواجهة هذا الحراك، على اعتبار أن أرضيته موجودة، سواء من خلال شبكة العلاقات والتحالفات القائمة أصلاً قبل الحدث، أو نتيجة تشابه بنى النظم السلطوية وتركيبتها داخل هذا التحالف، أو حتى لوجود البعد الطائفي بين حلقاته الثلاث على الأقل (إيران، نظام الأسد، وحزب الله)، والتقائهم مع روسيا التي لا تخفي مدى حساسيتها من الإسلام السني، ورغبتها في إيجاد توازن سني- شيعي على مستوى العالم، على أن تكون ركيزة هذا التوازن سيطرة شيعية في المشرق العربي، في مقابل أن السنة يشكلون كتلة أكبر على مستوى العالم.
كانت المشكلة في التحالف المقابل، حيث لم تكن، ولا في أي لحظة، نوايا جدية لتشكيله، أو تشغيله لمواجهة التحالف القائم والمتشكّل، بل مجرد خليطٍ من الأطراف، لم يكن بينها أي تنسيق، في أحيان كثيرة، كما أنها تختلف في رؤيتها للحدث، من حيث مساراته ومآلاته، وهو ما جعل إدارتها تدخلاتها تأخذ طابعاً فوضوياً، أنتج كوارث حقيقية على حراك السوريين، ويكفي للتدليل على ذلك أن التحالف الآخر استخدمه ذريعةً لحرب الإبادة والتهجير ضد السوريين، بحجة أنهم يواجهون مؤامرة موصوفة.
انطلاقا من ذلك، يستثمر اليوم تحالف روسيا – إيران نجاحه في توضيب حربٍ كانت على مقاساته، بدءاً من تحريف الرواية المؤسسة للحدث، وصولاً إلى فبركة أعداء غير حقيقيين. لم يكن هدفهم لا مساندة السوريين، ولا حتى هزيمة الروس والإيرانيين، بقدر ما كان دافعهم اعتبارات خارج سياق الحدث السوري، وعندما أدركوا أنها تحققت، كما فعلت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، التي انتزعت كيماوي الأسد وجمّدت نووي إيران، فوّضت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في إخراج الصورة النهائية، ومثله أطراف أخرى محسوبة على هذا التحالف، بما يعني أن تلك الأطراف أخذت حصتها، وانصرفت قبل هذا الزمن بوقت طويل، وقبل أن يكتشف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أنه أنجز الانتصار، وهو الآن في طور هندسة المنطقة وكتابة مدونة مسيرتها.
نعم، هي حرب منظومات، لكن المنظومة الأخرى اقتصرت هيكليتها على السوريين وكانت فارغة من أطراف إقليمية ودولية وازنة، على الأقل لم تشترك ولا دولة من أقرباء الشعب السوري وحلفائه في معارك مباشرة، ولم ترسل جيوشاً، ولا آليات، كما فعلت روسيا وإيران. ثم إن حسابات الربح والخسارة ومعاييرهما بالنسبة لهذا التحالف تكاد تخرج عن العقلانية، وذلك لارتباطها بالأصل بأهداف غير عقلانية ولا منطقية، فبالنسبة للأسد النصر لديه يقاس بإفلاته من الموت على شاكلة معمر القذافي، ثم بقائه في السلطة. أما الكوارث الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي أنتجها “انتصاره”، فتلك قضايا ستصلح نفسها، أو يتم إصلاحها مع الزمن، على اعتبار أن الزمن “مهما طال” سيبقى واقفاً عند انتصاره المزعوم.
وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا بوتين، إذ ليس مهماً تكاليف النصر المتحقق، ما دامت الجيوسياسة بخير، حيث تربض القواعد الروسية في قلب الشرق الأوسط، وتتبختر الزوارق في مياه المتوسط، ولا بأس من اختراع رواية السيطرة على ممرات النفط والغاز، وطبعاً من دون الاهتمام، لا بحسابات الجدوى ولا التكاليف، ومدى أهمية ذلك بالنسبة لدولةٍ تفقد نخبها الحيوية، إما بالهجرة إلى أوروبا وأميركا، أو بالموت بسبب الإدمان على الكحول، هرباً من الواقع الأليم.
وقس على ذلك حسابات إيران وحزب الله للنصر والخسارة، حيث لا داعي لاستحضار كشف تفصيلي بهذا الأمر، ما دامت المسألة بالأساس تقوم على محرّكات طائفية لا عقلانية، ما يجعل من تحليلها عقلانياً مسألة عبثية بامتياز.
لعل أفصح توصيفٍ عن الانتصار المحقّق في سورية ما قاله مسؤول دولي أن “دولة الأسد قشرة رقيقة تغطي مجموعة من الضيعات” (القرى)، كما تكفي للإشارة على هذا الانتصار مراقبة الهزع والفزع الحاصل داخل روسيا، نتيجة إخباريات عن وجود قنابل في الأماكن العامة. والصحيح أن هذا النوع من الانتصارات يستدعي من المنتصر أن يبقي المهزوم خاضعاً لمدى زمني طويل، وأن يبقى هو مستنفراً، فيما لا تزال روسيا وحلفاؤها يطمحون إلى تحقيق شيء من الأمن على امتداد الأرض السورية، من دمشق إلى الحسكة.
المصدر : العربي الجديد