مقالات

سمير صالحة – سورية.. كل هذه الحسابات

يشهد الشأن السوري، مطلع العام الجديد، أكثر من لقاء ومؤتمر واجتماع مصحوب بمفاجآت وتحولات سياسية وعسكرية ودستورية عديدة في المنطقة. وخلال الأشهر الثلاثة المقبلة ستتحرر سورية تماما من تهديد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ووجوده في المشهد السياسي والأمني للبلاد. وسيبدأ نقاشٌ ينتهي سريعا مع فصائل جبهة النصرة وامتداداتها، باعتبارها عقبة أمام الحل، عبر خيار تبني القوة ضدها أو اقتناعها هي بضرورة تفكيك بنيتها وإنهاء دورها كما هو قائم، والتوجه نحو الذوبان في تكتلات وتحالفات أكثر اعتدالا وليونةً واستعدادا لتقديم لغة الحوار على التصعيد والتحدّي.

ولن يكون هناك هذا التصعيد التركي الروسي ضد مجموعات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كما تُمنّي أنقرة النفس بذلك، وستتم عمليات سحب مناطق كثيرة يسيطر عليها من يده إما لصالح النظام أو وضعها تحت تصرف حلفائه الأميركيين أو الروس، لينوبوا عنه في عمليات المساومة السياسية والدستورية، ريثما تتضح طريقة مشاركته في المفاوضات السورية السورية.
وسيتضح شكل خريطة الطريق الجديدة لقوى المعارضة السورية ومنصاتها وقواها السياسية والعسكرية، والتوجه في منحى توحيدها تحت سقف مشترك، يجلس في إطار وفد واحد على طاولة المفاوضات. وسيتقلص عدد منصات التحرك وقاعات الاجتماعات واللقاءات، وسيتقدم التفاهم على قالب حوار سياسي جديد، يدمج مساري أستانة وجنيف وما تريده روسيا أمام طاولة واحدة خارج الأمم المتحدة، ولكن تحت غطاء قراراتها، كما حدث في تفاهمات الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الغربية.

وستبدأ عملية تفعيل صيغة الحلول السريعة والعملية لملفات إنسانية واجتماعية وحياتية يومية، تأخذ بالاعتبار ملفات اللجوء والنزوح والإعمار والإفراج عن المعتقلين، وتقليص عدد خطوط التوتر بضمانات دولية. وستحسم مسألة مصير النظام الذي يريد ضمانات إقليمية ودولية بشأن وجوده أمام الطاولة، وعدم تعرّضه للمساءلة السياسية والقانونية، بعد المرحلة الانتقالية في أي ملفات جرائم أو قتل. هل سيحصل ذلك كله؟ هل أصبح الحل في سورية على الأبواب فعلا؟ وهل يتطلع الشعب السوري بكافة انتماءاته وميوله وتوجهاته إلى الأسابيع القليلة المقبلة لعقد اجتماعات إقليمية ودولية، تخرجه من أزمته ومعاناته بعد 7 سنوات من القتل والدمار والتهجير؟ هل يأتي الخلاص هذه المرة من فيتنام، حيث التقى الرئيسان، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، ودخلا في عملية مساومةٍ تنهي الأزمة السورية، حيث برز القلق الروسي من أخطار تقسيم سورية وتفتيتها، لتقابله قناعة أميركية بأن الفيدرالية هي الخيار الوحيد المتبقي، على الرغم من اعتراضات محلية وإقليمية، على أن الفدرلة ستكون، عاجلا أم آجلا، مقدمة للانفصال وإعلان الكيانات المستقلة؟ هل يمكن القول إن روسيا فشلت في تحويل أستانة إلى مركز الثقل في ملف الأزمة السورية على حساب جنيف، ولذلك تحركت نحو المنبر البديل الذي تروجه تحت عنوان “مؤتمر الحوار الوطني”؟ هل يأتي التفاهم الأميركي الروسي في سورية في إطار خطة حسابات ربح وخسارة إقليمية ودولية أم نتيجة مطلب من بعضهم في إطار صفقاتٍ لإضعاف قوى على حساب تعزيز نفوذ أخرى؟

الواضح أن روسيا نجحت في تعطيل فرض أية عقوبات دولية ضد النظام السوري، على الرغم من كل التقارير الأممية والدولية بشأن جرائم ارتكبها ضد الشعب السوري، لكنها نجحت أساسا في تعطيل أي عمل عسكري غربي أو إقليمي ضده. وتمكنت روسيا أيضا من تمييع قراراتٍ أممية كثيرة، وتفريغها من مضمونها، وتفعيل ما يناسب مصالحها في سورية ويفتح الطريق أمامها، للإمساك بمزيد من خيوط اللعبة هناك، وكان آخرها دعوتها إلى مؤتمر الحوار والمصالحة الوطنية السوري، ونجاحها في فرضه على الجميع، على الرغم من كل الاعتراضات والرفض والتحفظ من حلفائها قبل خصومها.

أما تركيا فتواصل رفضها الاعتراف بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، لكنها قد ترضى بمشاركة من يمثله من المعتدلين في صفوف قوات سورية الديمقراطية، فهي غير راغبة في التصادم مع روسيا مجدّدا بعد مصالحة مكلفة في أعقاب أزمة إسقاط المقاتلة الروسية، قبل عامين.

وبشأن إيران، فإنها تعرف أنها ستكون أول من يدفع ثمن التقارب الأميركي الروسي، خصوصا أن موسكو تسلمت الرسائل الأميركية بشأن إصرار واشنطن على التصعيد ضد طهران، ليس بطلب سعودي أو إسرائيلي فقط، بل لتقليم أظافر إيران وحلفائها في لبنان وسورية واليمن، ولإنهاء تشدّدها في قطع الطريق على صفقات سياسية إقليمية كثيرة، ستظهر إلى العلن مع تراجع ملف الأزمة السورية. وروسيا جاهزة للتفريط بشراكتها مع إيران في سورية، ما أن تتأكد من حسم أنقرة وواشنطن موقفهما باتجاه دعمها في الحصول على ما تريده في سورية. وفي العلن “الولايات المتحدة تريد سورية كاملة وموحدة، لا دور لبشار الأسد في حكمها”، كما يقول وزير الخارجية، ريكس تيلرسون. وفي الخفاء، هي تفاوض الروس على كل شاردة وواردة، خصوصا ما يتعلق منها بالموضوع الكردي.

بصورة أوضح، روسيا هي صاحبة الدور الأهم في قلب موازين القوى في سورية. وستتجاوز اقتراحاتها بشأن صناعة المشهد السياسي الجديد هناك وضع مسودة دستور فيدرالي لسورية، ومنح الأكراد حكما ذاتيا في إطار سورية موحدة. وستطالب موسكو أنقرة بتغيير سياستها السورية، سواء أكان ذلك حيال النظام ودوره في المرحلة السياسية والدستورية المقبلة، أو في موضوع قبول قوات سورية الديمقراطية لاعبا معترفا به على الأرض، وله ثقله ودوره في رسم معالم خارطة سورية الجديدة ومستقبل البلاد، ليس إرضاء لواشنطن، بل من أجل حسابات خط الرجعة في سياستها السورية. ولم يعد خافيا على أحد أن الحوار الروسي التركي والروسي الإيراني اليوم مرتبط مباشرة بحجم التفاهمات الروسية الأميركية ومسارها، وفرض خريطة الحلول، تمهيدا لترتيب طاولة تفاهمات نهائية روسية – أميركية. ولا بد أن يكون هناك ثمن دفعته واشنطن لموسكو مقابل حماية مصالح حليفها الكردي المحلي ودوره في سورية. لكن الأهم هو من هي القوى التي حرّكتها إدارة ترامب للضغط على بوتين، أو التفاوض معه في سورية، على إضعاف تركيا وإيران ومحاصرتهما، في مقابل ترك روسيا تتحرك كما تشاء في الجغرافيا السورية؟

تعرف موسكو وواشنطن جيدا أن أنقرة وطهران هما أبرز من يعرقل تقدم مشروعهما في سورية. لذلك يريدان إنجاح اجتماع الحوار الوطني السوري ولقاء جنيف الثامن المقبل، في إطار براغماتية جديدة تناقش الحل في سورية. العروض المغرية التي تقدمها واشنطن باستمرار لموسكو بشأن جهوزيتها لحوار ثنائي جديد أكثر فاعليةً، بدل رهانها على ما تقوله أنقرة وطهران ورقة تلعبها روسيا باحتراف في حوارها مع البلدين، سورياً وإقليمياً اليوم.

ستحصل روسيا، في نهاية الأمر، على ما تريده في سورية، سواء بعدم عرقلة مشروعها في المفاوضات السورية- السورية، وإبقاء النظام أمام الطاولة، حتى إشعار آخر، وإلحاق حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالمباحثات، فهي تمسك اليوم بأكثر من ورقة محلية وإقليمية، في مقدمتها تضييق هامش التحرك التركي الإيراني في سورية، وتقدمها بفارق كبير على بقية اللاعبين في فرض رسم خريطة مستقبل سورية السياسية والدستورية والعرقية، كما تريد.

تعرف أنقرة أهمية حماية علاقاتها مع موسكو، خصوصا أن علاقاتها بواشنطن تتدهور وتتراجع يوما بعد آخر. وهي قد تحصل على جوائز ترضية روسية كثيرة، لناحية إنهاء النزاع الأرميني- الأذري في ناغورني قره باخ، وقبول الوساطة التركية في القرم بين روسيا وأوكرانيا، وإقناع موسكو بالشراكة الفاعلة في مشروع السكة الحديدية التي تربط آسيا الوسطى بمنطقة البحر الأبيض المتوسط أو آسيا بأوروبا. من المهم طبعا أن يلتقي الرئيسان، التركي أردوغان والروسي بوتين، ثماني مرات خلال 15 شهرا، لكن هناك حقيقة أخرى بشأن احتمال أن تكون المساومة الحقيقية في سورية، روسية أميركية بالدرجة الأولى.

يردد الأتراك والروس أنهما يتعاونان بشكل وثيق في سورية، لكن المقاتلات الروسية كانت تواصل غاراتها في غرب حلب، لحظة هبوط الطائرة التي أقلت أردوغان إلى منتجع سوتشي الروسي. ويقول نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، للأتراك، إن واشنطن ستواصل دعمها قوات سورية الديمقراطية، حتى بعد القضاء على “داعش” في سورية. ماذا يعني ذلك بالمقياس التركي للأمور غير التمسك أكثر فأكثر باليد الروسية الممدودة؟

الكرة في ملعب روسيا، ليس بسبب تمكّنها من سحب أوراق من يد طهران وأنقرة والنظام والأكراد والمعارضة، بل في نجاحها في طرح طريقة الحل التي تريدها هي في سورية وإقناع واشنطن بها كما يبدو، تاركة مصير لقاءات أستانة وجنيف تحت رحمتها مباشرة. وقد حصلت روسيا على ما تريده في سورية، وأصبحت بقدرة قادر الكفيل والمقرّر والموجه في الملف السوري، ورسم خريطة مستقبل “الشعوب السورية”، وهي اليوم من يدعو السوريين إلى المصافحة والعناق والجلوس حول طاولة التفاوض، تطالبهم بنسيان أسباب سقوط نصف مليون قتيل وتشرد عشرة ملايين نازح ولاجئ، يراد منهم العودة إلى أرضهم، حتى لو لم يعثروا على منازلهم وممتلكاتهم وقراهم فيها.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى