مقالات

بكر صدقي – ممثلون على مسرح فلسطين

اتخذوا القرارات، ونفذوها، ثم فوجئوا بالنتائج، كما يفاجأون دائماً. ونصبت خشبة مسرح كبيرة، كما هي العادة دائماً، وأخذ جميع الممثلين يتكلمون في وقت واحد، بحيث يصعب على «جمهور النظارة» أن يتابع الحوارات، فتضيع «الحبكة» في الضجيج. ضجيج الرصاص الحي، وضجيج الكلام والصور والميكروفونات والتلفزيونات.

أما خارج مبنى المسرح، فقد استمرت الحياة على منوالها «الطبيعي»: فأطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي الرصاص على جموع الفلسطينيين، فقتلوا عشرات منهم، بينهم أطفال، واحتاج إعلام محور الممانعة إلى ساعات بث إضافية احتفالاً باستعادة زمام الشاشات والميكروفونات، بعد «نكسة» ليلة الصواريخ الطويلة التي تلقى فيها الإيرانيون علقة ساخنة على الأراضي السورية.

افتتحت إيفانكا، محبوبة بعض العرب، السفارة الأمريكية الجديدة في القدس التي أعلنها أبوها عاصمة لإسرائيل، بعد تلكؤ أمريكي دام عدة عهود رئاسية في واشنطن. ودافعت ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هالي عن قرار نقل السفارة بمنطق مبتكر، فقالت إن هذا القرار يخدم عملية السلام!، وذلك في جلسة مجلس الأمن المخصصة لمناقشة المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل على حدود قطاع غزة بحق الفلسطينيين. الآن بتنا نعرف أن سبب تعثر عملية السلام الممتدة على ثلاثة عقود، إنما هو عدم اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لـ«الدولة اليهودية»! لنا أن نتفاءل، إذن، بقرب حلول السلام في أكثر قضايا القرن العشرين «تعقيداً».

يجب قول كلمتين بشأن وصف «التعقيد» هذا الذي انسحب ـ ويا للمصادفة ـ على «القضية السورية» أيضاً. قد يعني التعقيد، لدى من يستخدمون هذه الكلمة، كناية أدبية عن الدم الغزير الذي يسيل على مدى سنوات وعقود.. وقد يعني أن الطرف الضعيف في الصراع لا يقبل بشروط الطرف القوي المدعوم من أقوياء العالم ويستسلم، برغم استنزاف مزيد من دمه باطراد.. وقد يعني عدم تقادم القضية على رغم مرور السنوات والعقود، مثقلة بالآلام، ومسدودة الآفاق. ولا يعني التعقيد أبداً، كما يراد تصويره أو عرضه على خشبة المسرح، أنه لغز عويص يتطلب من المحقق العبقري أن يكتشف القاتل الذي ارتكب الجريمة الكاملة فلم يترك وراءه أي أثر أو دليل قد يدلان عليه.

وتلقف المندوب الروسي في مجلس الأمن هدية نيكي هالي بسرعة البرق، فأعلن عن استعداد بلاده لاستقبال اجتماع قمة بين بنيامين نتنياهو ومحمود عباس، لاستئناف عملية السلام المتوقفة! ففلاديمير بوتين لا يفوت فرصة من هذا النوع ليعلن أن روسيا ليست نداً للولايات المتحدة، في حل الصراعات العالمية المستعصية وحسب، بل هي بديل لها بعدما فقدت واشنطن، بقرار نقل السفارة، مصداقيتها لدى الفلسطينيين كوسيط «نزيه ومحايد». الوصفة الروسية لعملية السلام، إذن، لا يمكنها أن تجبّ الوصفة الأمريكية السابقة عليها، بل لها فقط أن تستأنفها من حيث تعطلت: السفارة انتقلت، وانتهى الأمر، لننتقل الآن إلى الخطوة التالية فنجمع «الرئيسين» لإزالة «سوء التفاهم»، فتشتغل الكاميرات والشاشات وأغصان الزيتون وضوء في آخر النفق وما إلى ذلك.. وما إلى ذلك..

بانتظار مناسبة أخرى «يضطر» فيها جنود الاحتلال لاستخدام القوة «المفرطة» أو «غير المتكافئة».. والذي منه.. والذي منه..

محور الممانعة الذي أفلس على دروب مراقد زينب والحسين، استعاد شيئاً من رونق الأداء، فتطايرت الكلمات الجزلة المألوفة على الألسن التي تعطشت إليها بعد طول انتظار. واستعاد «جمهور المقاومة» بهجة التصفيق والتهليل لما يقوله بطله المفضل على الخشبة. يشعر أنه في دفء بيته، ثانيةً، بعد طول غياب واغتراب في مجاهل الغابة السورية الموحشة، حتى لو كانت الرحلة السورية (لحزب الله) بحثاً عن طريق القدس الضائعة. فها هي الطريق وقد ظهرت معالمها، وها هي القدس في بؤرة الحدث مرة أخرى، بل في بؤرة الكلام والخطاب، والدم المشتهى سيال بلا حساب.

وماذا عن المشهد الفلسطيني من زاوية النظر التركية؟

تركيا، كما نعلم، على أبواب انتخابات عامة ورئاسية. تتنافس الأحزاب والمرشحون على كعكة السلطة، مع أرجحية كبيرة للحزب الحاكم والرئيس. غير أن الأرجحية لا تعني ضمان الفوز في الجيب، أو «الحجل في الجعبة» كما يقول المثل التركي. خاصةً والليرة التركية تواصل هبوطها الحر أمام العملات الصعبة، غير عابئة بكل قرارات المصرف المركزي التدخلية، ولا بما يمكن أن تتسبب به من تأثير على قرارات الناخبين. لذلك فقد تسابقت الأحزاب في إدانة الوحشية الإسرائيلية، وزاود بعضها على بعض في راديكالية الكلام. فلطالما كانت للقضية الفلسطينية سوق رابحة وجمهور متحمس في تركيا. الإسلاميون هم الأعلى صوتاً، يليهم اليساريون، ثم البقية. هذا لا يعني أن اليمين والكرد والعلمانيين والقوميين المتشددين خارج الموضوع.

دعا الرئيس أردوغان إلى تنظيم تجمعات مليونية في إسطنبول ودياربكر احتجاجاً على نقل السفارة الأمريكية والمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل. فجاءه الرد من زعيم حزب السعادة الإسلامي المنافس للعدالة والتنمية: السلطات لا تدعو لتجمعات جماهيرية، بل تتخذ إجراءات! كما جاءه رد آخر من حزب الشعوب الديموقراطي (الكردي) الذي ربما شعر أنه مستهدف بالدعوة الرئاسية إلى التجمع الجماهيري في دياربكر، فقدم من بقي من نوابه في البرلمان، بعد نزع الحصانة عن عدد منهم واعتقالهم، اقتراحاً بإلغاء جميع الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، الاقتصادية منها والسياسية والعسكرية. فتم رفض الاقتراح بأصوات نواب العدالة والتنمية والحركة القومية المتحالفين. رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، توعد إسرائيل بدفع ثمن كل قطرة دم فلسطينية، مع أنه لا يملك صواريخ موجهة إلى ما بعد بعد حيفا كحال حزب الله الإيراني في لبنان.

يبقى الأكثر طرافة نظام البراميل والكيماوي في دمشق الذي أدان الوحشية الإسرائيلية بأشد العبارات، ليتفرغ، من ثم، لمواصلة حربه الأبدية على الإرهاب.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى