أن يسعى سياسي طموح إلى استغلال اختلال فظيع في ميزان القوى الداخلي لمصلحته… فهذا أمر طبيعي في دولة هشة ضعيفة المؤسسات وعديمة المحاسبة.
وأن تتحكم الغرائز المذهبية وشهوة الغلبة وقهر مَن يُعتبَرون خصوماً في قطاع واسع من الشارع السياسي بهذه الدولة الهشة… فهذا ليس مستغرباً في عالمنا العربي.
وأن تصادر فئة، أو فئات، كل فضائل الوطنية أو الحضارة أو المقاومة أو الاقتراب من الله (عزّ وجل) لتحلل لنفسها ما تحرمه على غيرها… فظاهرة ليست نادرة في العالم الثالث.
غير أن اللافت في ما حدث في لبنان أخيراً، عندما قرّر وزير الخارجية جبران باسيل، بصورة فردية – وكأنه ليس جزءاً من فريق حكومي – فتح معركة مع إحدى مفوضيات منظمة الأمم المتحدة بتهمة «تحريض اللاجئين السوريين في لبنان على رفض العودة إلى سوريا عبر تخويفهم مما سيلقونه هناك بعد عودتهم»… فهذه – باعتقادي – حالة غير مسبوقة!
نعم… منظمة الأمم المتحدة، التي رأينا وسيطها الأممي ستافان دي ميستورا «يبيع ويشتري» بالسوريين منذ تكليفه غير الميمون تلك المهمة في يوليو (تموز) 2014، يتهمها باسيل «بتحريض اللاجئين» كي لا يعودوا إلى ديارهم!
هذه المنظمة الدولية، التي كانت منذ ذلك التاريخ أقرب إلى «شاهد زور» إزاء مؤامرة التهجير الممنهج لملايين المدنيين بقوة السلاحين النظامي والحليف… وتحت وطأة المجازر التي قضت على نحو مليون سوري وشرّدت نحو 13 مليوناً آخرين، اتهمها الوزير باسيل «بتخويف اللاجئين» مما سيلقونه من نظام جرّبوا أسلوبه في «الحوار» منذ 2011.
في الوقت نفسه، الوزير يعرف جيداً أن المنظمة تعرف جيداً، أيضاً، أنه والتيار الذي يرأسه «حلفاء» لـ«حزب الله» الذي أسهم قتاله في سوريا إسهاماً مباشراً في عملية التهجير. وأن التحالف القائم بين الحزب والتيار هو الذي فرض انتخاب الرئيس ميشال عون رئيساً للجمهورية، وأن عون – قبل صهره الوزير باسيل – كان المبادر في الأساس إلى إعلان تأييده لنظام الأسد انسجاماً مع ذلك التحالف.
أكثر من هذا، الأمم المتحدة وكل اللبنانيين شهود على الاتصالات العلنية التي لم تنقطع بين الجناح السياسي اللبناني الذي يضم عون وباسيل – وطبعاً، «حزب الله» – وحكومة نظام الأسد، ومنها الاتصالات بين باسيل ونظيره السوري وليد المعلم. وهذا يعني أنه إذا كان يمكن حسن الظن بشأن «حيادية» الأمم المتحدة… فهذا حتماً لا ينطبق على وزير في تيار ضمن تحالف ضالع بدعم أحد أفرقاء النزاع السوري.
من ناحية أخرى، ازداد المشهد «سوريالية» مع «فضيحة» التجنيس الأخيرة التي تأكد فيها منح الجنسية اللبنانية لعدد من المقرّبين من قادة النظام السوري ومموّليه وشركائه الماليين، بينما لا تعدم بعض الجهات اللبنانية حيلة لطرد اللاجئ والنازح المسكين تحت ذريعة منع التوطين. ذلك أن هؤلاء المقرّبين ما زالوا يملكون القصور والأموال والنفوذ ولا خوف عليهم في كنف نظام يخدمونه ويخدمهم، بعكس سكان خيام اللجوء الذين حُرموا كل شيء إلا الخوف والجوع.
ثم إن هؤلاء، بخلاف كبار المتموّلين الذين يحصلون على إقامات وجنسيات في العديد من دول العالم لقاء استثمارهم مسبقاً في اقتصاديات تلك الدول، لا توجد ضمانة أكيدة بأنهم سيستثمرون في لبنان. ويضاف إلى المقرّبين من نظام دمشق أيضاً عدد من المشمولين بقائمة التجنيس تحوم شبهات حول مصادر ثرواتهم، كما أن نفراً منهم متهمون بفضائح رشاوى وسمسرات مشبوهة على مستوى عالمي.
وبالتالي، كان من الضروري التساؤل عن مسوّغات عملية تجنيس أعدّت خفية، ولم يُكشف النقاب عنها رسمياً إلا بعد إثارتها إعلامياً وسياسياً. وبعد إثارتها، حمل رد الفعل الرسمي «التوضيحي» إدانة ذاتية عندما تقرّر إحالة قائمة الأسماء إلى المديرية العامة للأمن العام «للتحقيق بخلفيات الأسماء الموجودة فيها»، مع أن منطق الأشياء يفترض أن يسبق التحقيق منح الجنسية لا العكس.
وفق المعلومات، حمل مرسوم التجنيس توقيعي رئيس الوزراء سعد الحريري وحليفه السياسي وزير الداخلية نهاد المشنوق، بجانب توقيع رئيس الجمهورية. وبالتالي، فإن الحريري والمشنوق يتحملان معنوياً وسياسياً جزءاً من المسؤولية. وهما، وإن كانا قد اقتربا أخيراً من موقع عون السياسي، فهما – على الأقل حتى الآن – يكرّران علناً أنهما ضد النظام السوري. ومن ناحية ثانية، تشير جهات غير بعيدة عن أجواء تيار «المستقبل» إلى أن جهات في «التيار الوطني الحر» (التيار العوني) هي القوة الدافعة وراء مرسوم التجنيس، وأن لا علاقة مباشرة لرئيس الوزراء ووزير الداخلية به، إلا أنهما – وبالذات الحريري – لا يريدان أن يظهرا وكأنهما يعارضان تمتع رئيس الجمهورية بصلاحياته، ومنها حقه بمنح الجنسية.
قد يكون هذا الأمر صحيحاً، لكن المشكلة مع هذا التبرير أنه في حين يحرص الحريري على احترام صلاحيات رئيس الجمهورية، فإن العونيين يواصلون تقزيم صلاحيات رئيس الحكومة في «انقلاب صامت» ولكن جدّي ومتصاعد.
اليوم كثيرون يرون أن موقع رئيس الحكومة عاد فعلياً إلى وضع حقبة «ما قبل الطائف»… إذ يحرص رئيس الجمهورية على حضور كل اجتماعات مجلس الوزراء، ويقضم مباشرة أو عبر تسلّط أعضاء تكتليه الوزاري والنيابي من سلطات رئيس الحكومة. وفي هذا الإطار فإن مواقف وزير الخارجية المستخفة بـ«المسؤولية الحكومية الجماعية» ليست جديدة، بل استمرأها منذ بعض الوقت مستقوياً بمقام الرئاسة، وبالهيمنة الأمنية لـ«حزب الله»، وبإعلان الحريري أن خياره السياسي الثابت «الاستقرار» و«الاعتدال».
خيارا «الاستقرار» و«الاعتدال» كانا المبرّر العجيب الذي استند إليه الحريري لتبرير السير في ركاب عون وانتخابه رئيساً والموافقة على قانون التمثيل النسبي للانتخابات. ومن ثم، القبول بأن تغدو مهمته الحقيقية الوحيدة الاهتمام بشأن الإعانات الدولية، في حين يتخذ التيار العوني – ومن خلفه «حزب الله» – القرارات الاستراتيجية والأمنية والسياسية الدولية للبنان.
هذا الحال، بصرف النظر عن نيات الرئيس الحريري الطيبة، يشكل – للأسف – رضوخاً لمؤامرة مركزة لنسف «اتفاق الطائف»، وتدمير الوفاق الوطني، وإلغاء آخر فرص التعايش في لبنان.
المصدر : الشرق الأوسط