في عام 2014 نشرت هيلاري كلينتون كتابها الذي أطلقت عليه اسم «خيارات صعبة». جاء الكتاب في بنيانه أقرب للسيرة الذاتية التي دونت فيها الكاتبة يومياتها إبان ترؤسها للدبلوماسية الأمريكية (2009- 2013). في هذا الكتاب بدت كلينتون صريحة بشكل غير معتاد لسياسية لن تلبث أن تخوض المنافسة الرئاسية.
يوضح عنوان الكتاب فحوى رسالته المتمثلة في تلك الخيارات الصعبة التي تواجه صانع القرار، في دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة، الذي كثيراً ما يجد نفسه متنازعاً بين مصالحه ومبادئه، التي لا تكون دوماً على وفاق. أسهبت كلينتون في تبيان ذلك في أكثر من موقع داخل الكتاب، خاصة تلك الفصول المتعلقة بالمنطقة العربية.
إلا أن الخيارات الصعبة في مجال السياسة والدبلوماسية لا تواجه الولايات المتحدة وحدها، بل تتعرض معظم البلدان لتلك التحديات بين خيارات جميعها صعب، خاصة إذا كانت هذه البلدان تمر بمرحلة بناء تاريخية، تتمثل في إعادة تعريف دورها ومكانتها على الصعيد الدولي. الجمهورية التركية تبدو حالياً مثالاً مناسباً لتحدي الخيارات الصعبة هذا، فهذه الدولة التي قامت من جديد بعد سبات طويل تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق.
التحدي الأكبر الذي يواجه تركيا اليوم هو المتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. بالنسبة للأتراك فإن المطلوب هو إعادة تعريف هذه العلاقة، بما يجعلها علاقة تقوم على الشراكة المتساوية التي تخدم مصالح الجميع (مقال الرئيس أردوغان الأخير)، لكن على ما يبدو فإن الشريك الغربي ما يزال يفضل أن تكون العلاقة علاقة تبعية، لا يفعل فيها التابع سوى تنفيذ ما هو مطلوب منه، حتى إن كان يتعارض مع مصلحته أو يهدد أمنه. بالمقابل فإن خيار الانسحاب من المنظومة الغربية والانحياز للمعسكر المناوئ لا يخلو من مخاطر، ويكاد يتفق المعنيون، على أن تعريض العلاقة مع الولايات المتحدة أو حلف الناتو للقطيعة، يبدو أقرب لعملية انتحارية من كونه بديلاً استراتيجياً، وهو الأمر الذي تعزز خلال الأسابيع الماضية، حيث رأى الجميع كيف تسببت تغريدة مقتضبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وصف فيها العلاقة مع تركيا بغير الجيدة، معلناً رفع الرسوم الجمركية على الحديد والألمونيوم، في تراجع مفاجئ وغير مسبوق في سعر صرف الليرة التركية.
الانفتاح وتوسيع الخيارات الاستراتيجية، كان من العوامل المهمة التي أدت لنهضة تركيا، التي كانت لعقود رهن التحالفات الغربية. اليوم تواصل تركيا ذلك الانفتاح الذي يضايق أعداءها وحلفاءها الغربيين المفترضين على حد سواء، فكلاهما تعامل بهيستريا مع صفقة الصواريخ الروسية المتطورة، التي أبرمتها تركيا مؤخراً، كما أن كلاهما حمل النظرة المتشككة ذاتها حول حدود دور تركيا داخل مشروع «طريق الحرير» الصيني، وحول محاولات اقترابها من دول «البريكس».
يزعم بعض الساسة الغربيين أن تركيا تتعامل مع المنافسين والأعداء، ويقصدون بالتحديد روسيا والصين، إلا أن ذلك الادعاء غير موضوعي، حيث أن علاقة هذين البلدين التجارية والصناعية بالغرب لم تتوقف، بل وصلت مرحلة باتت محاولات الحد منها مستحيلة. في الوقت ذاته فإن محاولات الحجر على الخيارات الاقتصادية التركية وتحديد الشركاء نيابة عن الأتراك، تبدو غير مقبولة من ناحية السيادة الوطنية، ليس فقط بالنسبة لدولة متعاظمة مثل تركيا، ولكن حتى بالنسبة للدول الإفريقية الصغيرة، التي تتفق حول حقيقة أن الشراكة مع الصينيين تظل أكثر فائدة من الشراكة مع الدول الغربية.
اليوم، وفي الوقت الذي ترفض فيه الولايات المتحدة منح قروض لتركيا، تلجأ الأخيرة للصين، التي توفر لها احتياجاتها بشكل كامل. الغرض من توسيع الخيارات والشراكات، هو إيصال رسالة مفادها أني لن أموت جوعاً إذا ما قاطعتني. رغم كل هذه المعطيات يدرك الساسة الأتراك أكثر من غيرهم أن التحول التام إلى جزء من المعسكر المقابل، وهو ما تحاول بعض الدول جر أنقرة إليه، سيكون خياراً باهظ التكاليف، ولذلك فإننا نجد أن تركيا ما تزال تعتمد خيار الحوار الدبلوماسي لمخاطبة الغرب، وإعادة التواصل معه، لكن على ما يبدو فإن بعض الأطراف لا ترضى سوى بتحجيم دور تركيا، بحيث يكون جيشها مجرد فيلق ضمن الحلف الغربي، وتكون أراضيها مجرد معسكر إضافي جاهز للاستخدام في أي وقت، كما لا تكون مواقفها سوى مجرد صدى للأصوات والمواقف الغربية.
حالياً تم فتح عدد من قنوات التواصل مع الجانب الأمريكي في محاولة لإنهاء هذه الحالة المعقدة من الاحتباس في العلاقة بين الجانبين، لكن تعنت الإدارة الأمريكية الحالية، جعل الشروط والمطالب التي تضعها أقرب لمحاولة الإذلال من كونها مساعي تعبر عن رغبة حقيقية للعودة بالعلاقات لسابق عهدها، فبالإضافة إلى رفض تسليم المعارض غولن المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية، والمقيم في الولايات المتحدة، وإلى مطالبة واشنطن بتسليم القس الأمريكي المحتجز في تركيا، ترى الإدارة الأمريكية أن من المهم أن لا تقاطع تركيا تمدد المجموعات الكردية المسلحة، التي يعتمد عليها في محاصرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، كما تضغط واشنطن باتجاه استخدام أنقرة كورقة ضاغطة ضد طهران، وهو ما يرفضه الأتراك بشدة، نظراً للخسائر الاقتصادية الكبيرة التي قد تنجم عنه.
تهدد الولايات المتحدة باتباع عقوبات اقتصادية موجعة ضد تركيا في حالة عدم الالتزام. هنا سوف يتجاوز الأمر مربع تراجع العملة الوطنية، ليمتد إلى تعقيدات جديدة تضعها واشنطن للحيلولة دون استئناف التعاون في مجالات حيوية كالتسليح والأمن. لا يخفى على متخذ القرار في أنقرة ما يمكن أن تمارسه الدول المسيطرة على القرار الدولي، لكنه يدرك في الوقت ذاته أن الحل لا يكمن في اتباع الوصفات الغربية، لأن العفو عن المتورطين في المحاولة الانقلابية ووقف ملاحقة المخربين، خاصة من ارتبط منهم بقوى معادية، إضافة إلى السماح بتمدد المجموعات الكردية الانفصالية، كل ذلك وغيره من المطلوبات في الشق الاقتصادي، قد يقود في نهاية المطاف إلى إضعاف أو تفكيك الدولة التركية. بالإضافة إلى كل ذلك فإن الولايات المتحدة لا تقدم أي ضمانات مسبقة، حيث لا يعلم أحد ما إذا كانت هذه المطالبات، حتى مع افتراض الاستجابة الكاملة لها، ستكون نهائية، أم أن الأمر سيتحول إلى سلسلة متصلة وغير منتهية من التنازلات والابتزاز.
هناك صعوبتان تجعلان الحوار مع الإدارة الأمريكية الحالية معقداً، الأولى كونها تتحدث بأصوات متباينة، حيث يكون رأي وزارتي الخارجية والدفاع في كثير من الملفات مختلفاً عن رأي الرئيس. والثانية كونها تجتمع على دعم الأيديولوجية اليمينية المتطرفة، التي تضع بين أولوياتها كسب دعم المتشددين الإنجيليين، الذين يتحركون وفق مواقف عقدية تكون في غالب الأحوال غير مرتبطة بالمصالح المادية. في هذا الظرف الدقيق تبدو الخيارات جميعها صعبة أمام الدولة التركية التي تواجه مخاطر كثيرة، وسوف يكون لأي خيار يتم اتخاذه تداعياته التي قد تستمر، بدون مبالغة، لعدة عقود. من هنا يأتي الارتباط بين السياسة الخارجية وتوحيد الجبهة الداخلية، ومن هنا تأتي أهمية التركيز على تدعيم الديمقراطية والشورى، بحيث لا تكون القرارات المتخذة مجرد خيار لحزب حاكم حالي، أو رأياً خاصاً برئيس بقدر ما تكون خياراً شعبياً. هذه النقطة الأخيرة تشكل فارقاً لا يمكن تجاهله.
المصدر : القدس العربي