الحرب في سوريا هي أيضاً حربٌ ومباشرة على مصير الصيغة اللبنانية. وهذا مستوى آخر يُضاف إلى مستويات الصراع الهائل الأهمية للحرب السورية.
في نظرة إلى متغيّرات ميزان القوى داخل النظام الطائفي اللبناني سنرى أن مصدرها الرئيسي هو تحوّلاتُ الوضع الإقليمي المدعومةُ من تحوّلاتٍ سوسيولوجيّةٍ وسياسيّةٍ في البيئتين السنّية والشيعيّة اللبنانيّتين.
“لبنان ليس أولاً” ولا “عروبته” هما من حوافز الصراع الأساسية في هذه الحقبة. كان هذان الحافزان حاضريْن في زمن مختلف سابق قبل أربعة عقود. الذي يدور حالياً هو صراعٌ إقليميٌّ يقود حرباً أهلية عربية من اليمن إلى العراق إلى لبنان مرورا بسوريا.
لهذا يستند خطابا السنّية السياسيّة والشيعيّة السياسيّة اللبنانيّتين إلى ادّعاءين دعائيّين كبيريْن. شعار “لبنان أولاً” عند الطائفيّة السنّية وشعار “عروبة لبنان” عند الطائفيّة الشيعيّة.
الخطابان محورهما الوضع في سوريا: لبنان أولاً كشعار ضروري يمليه العداء للنظام السوري والعروبة كشعار لمؤيدي النظام السوري اللبنانيّين باعتبارها التغطية البعثية القومية العربية لهذا النظام.
لم تُدرس بعد كفاية آثار المدرسة الخمينية الإيرانية على أوضاع المشرق العربي والصراع العربي الإسرائيلي ومن ضمنهما لبنان. لكن الأكيد كما تبدو الحالة بعد انفجار الوضع السوري أن الطرفين المسيطرين على السنّية والشيعيّة اللبنانيّتين لم يتأخرا منذ اللحظة الأولى عن تنظيم أشكال مختلفة من الالتحاق العسكري بالوضع السوري.
بدا الأمر بالنسبة للشيعيّة السياسيّة التي وُلِدتْ من قلب ديناميّات النظام الطائفي اللبناني سلماً وحرباً أهليّةً وتغذّت بشكل أساسي من الصراع العربي الإسرائيلي… بدا الأمر وكأن كل ما حصل سابقاً من تشكّل ميليشياوي في الحرب إلى بناء مقاومة “غيريللا” ضد إسرائيل هو تمهيدات للدور الأكبر الذي ستظهر الأدوار السابقة مقارنةً به وكأنها مجرد “تدريبات” سابقة للمعركة الكبرى: دور الانخراط العسكري في الحرب السوريّة.
عندما أعلن أمين عام ” حزب الله” رسميا انخراط الحزب في الحرب السورية بعد فترة من الدعم غير المعلن، على غرار النشاط “المستقبلي” من طرابلس منذ بداية الحرب، تذكّرت مشهداً هائلاً حدث في التسعينات (كانون الثاني 1994) عندما توفّي باسل النجل البكر لـ حافظ الأسد. فخلال مراسم التعزية في القرداحة في الأسبوع الذي تلا الدفن قام وفد من “حزب الله” بزيارة تعزية. لم يكن دخول الحزب عاديا.
فقد تشكّل الوفد من بعض المدنيّين ترافقهم مجموعة كبيرة من لابسي الثياب السوداء الذين دخلوا بشكل هرولة تشبه الهرولة العسكرية للسلام على أهل الفقيد وعلى رأسهم حافظ الأسد. نُشرتْ صورة المجموعة في بعض الصحف وصوّرها التلفزيون لكن لم يدرك الكثيرون يومها معناها العميق البالغ الدلالة على حجم الارتباط الاستراتيجي بين الحزب اللبناني الإيراني وبين النظام في سوريا. سيظهر معنى هذا المشهد بعد أكثر من 18 عاماً في الحرب السورية بعد أن يكون الحزب قد أخذ “مكانه” في النظام السياسي اللبناني الذي كان في تلك المرحلة تحت إدارة حافظ الأسد بتفويض عربي ودولي كبيرين.
لا أرى مشهدا يعادله بالأهمّية والجدية سوى مشهد زعيم تيار المستقبل سعد الحريري في مجلس للأمراء السعوديّين الكبار برئاسة الحضور المهيب للملك عبدالله. لم نكن نحتاج إلى هذه الصورة لنعرف حجم العلاقة البنيوية للسنّية اللبنانيّة مع السعودية ولكنه كان دليلا لا يقبل الشك على أن هذه العلاقة هي من مكوِّنات البلاط السعودي مثلما هو حضور السيد حسن نصرالله من مكونات “البلاط” الإيراني و”شاهنشاهِهِ” الحالي علي خامنئي. تكرّر مشهد ظهور سعد الحريري بين الأمراء السعوديين الكبار ولكن مشهد القرداحة لم يتكرر احتفاليا بينما “تكرّر” حربيّاً في بلدة القصير خلال الحرب.
صار من المسلّم به في ظل عدم قدرة الأطراف المسيحيّة اللبنانيّة على الاتفاق أن خلاف المرجعيّتين السنّية والشيعيّة يعطِّل حتى الآن انتخاب رئيسٍ جديد للجمهوريّة. وهذه إحدى أكبر المعادلات اللبنانيّة الجديدة التي تجعل القرار الأساسي في الدولة منذ اتفاق الطائف خارج جبل لبنان. لكن هذه معادلة معلنة، غير المعلن بعد بدء الحرب السوريّة هو أن الأطراف المسلمة صارت مركزا يجعل لبنان أسير انتظار “جمهورية ثالثة” لا يمكن حسم قيامها صراعيا أو توافقيا إلا بعد تحديد مصير الحرب في سوريا، يعني مصير الرابح والخاسر في سوريا.
لذلك الحرب في سوريا هي أيضاً حربٌ ومباشرة على مصير الصيغة اللبنانية. وهذا مستوى آخر يُضاف إلى مستويات الصراع الهائل الأهمية للحرب السورية وبينها مصائر الأدوار الإقليمية لإيران والسعوديّة وتركيا، خصوصاً تركيا التي تدخل الحلبة العربية مجددا وسيكون أيضا لخسارتها في الحرب السورية تأثير ليس فقط على الدور بل على كل صيغة “تركيا الجديدة” كما يحب ويصر الرئيس رجب طيّب أردوغان على تسميتها.
لم يعد ممكنا بعد الحرب السورية أن يكون النظامان السوري واللبناني نظامين دائمين. وإذا أفلتت سوريا من خطر تغيير خارطتها – وهو إفلات صعب جدا في العراق الذي نشأت فيه دولة كردية – فلبنان كبلد دائم لن يكون بخطر. أما الصيغة السياسية لعلاقات الطوائف فهي مفتوحة.
على أي حال… لتتأمّل الأقليات اللبنانية جميعها جيّداً في ما حولها ولها: أين ستجد هذا “العز” ليس فقط السلطوي المباشر بل الحياتي أيضاً في أي مكان آخر في المنطقة. بكلام آخر أين ستكون محترمة بالشكل الذي يمنحها إياه لبنان بما فيها “الأقلية” السنّية اللبنانية التي وإن كانت تنتمي إلى أكثرية كبيرة في المنطقة فإن النمط اللبناني للعيش والسياسة، حتى بشكله السلبي، لن تحقّق نفسها في أي مكان آخر كما تحقِّق نفسها فيه في لبنان.
كفى “دلعاً” أيتها الأقليات اللبنانية خصوصا غير المسيحيّة. ولتراجع كلٌّ منها مجدها السلطوي الذي تضخّم إلى حد بهدلة بنية الدولة اللبنانية. لبنان النظام القوي والدولة التافهة.
الكاتب – جهاد الزين – النهار