مقالات

رشا عمران : عنقود عنب دوماني

من الصعب على سوري عاش يوميات الثورة السورية، في سنتها الأولى (2011)، أو تابع تفاصيلها، أن ينسى اللافتة الكبيرة التي حملها ثوار دوما في التاسع من شهر يوليو/ تموز، وخطوا عليها قول الله تعالى في سورة المائدة (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط إليك يدي لأقتلك).

كانت تلك اللافتة في مقدمة إحدى المظاهرات الرائعة في مدينة دوما، (أقل من تسعة كيلو مترات عن قلب دمشق)، وقد تكون إحدى الصور الأبهى عن مسار الثورة السورية في ذلك الوقت: التمسك بالسلمية في مقابل العنف الأمني المسلح، والتمسك بالمدنية ضد الهمجية العسكرية والأمنية، والتمسك بشراكة الوطن ضد من استباحوا هذه الشراكة، لم تكن اللافتة استثناءً في دوما. يتذكر الجميع أيضاً يوم صدحت من جامع دوما الأكبر أغنية الفنان سميح شقير الشهيرة (يا حيف)، أغنية تذاع من الجامع!! هذا أيضاً كان ردا مدينيا على من اتهم دوما يومها بالإرهاب السلفي الريفي، ويتذكر الجميع، أيضاً، ذلك الرجل العجوز، أبو صبحي الدرة، بائع البقدونس الذي كان يمشي وحيداً، ملقيا قصيدة أصبحت إحدى علامات الثورة (يا فتية الشام للعلياء ثورتكم). وكان أبو صبحي الذي استشهد، بعد وقت قصير برصاص قناص حاقد، يرد بقصيدته تلك على كل من وصم أهل دوما بالتخلف والجهل. كانت دوما، في تلك الفترة، تفاخر بأهلها وثوارها وثائراتها، وعلى الرغم من تعرضها لمجزرة تلو أخرى، إلا أنها كانت تفاخر، أيضاً، باستقبالها مئات الناشطين السوريين المدنيين الذين رغبوا في تحويل تجربة حرية دوما إلى ما يشبه المثل عمّا يجب أن تكون عليه إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لكي تستحق لقب المناطق المحررة. انتشار القناصين على الأسطح المجاورة لها وتعرضها اليومي للقصف، وخنقها بحصار قاتل، لم يمنع ناشطي الإغاثة من دخولها، بابتكارهم طرقاً مذهلة للابتعاد عن حواجز الأمن والجيش، ولم يدفع سكانها وأهلها إلى مغادرتها، ولم يتخل الناشطون عنها، ولم تتوقف ثائراتها عن إيجاد بدائل يومية للحياة. كانت تجربة دوما أكثر تجارب الثورة السورية المدنية ابتكاراً ونمواً وتطوراً، حتى بدأ المال السياسي لعبته بها، وظهر المجاهدون من كل الأجناس والانتماءات، وبدأت صراعات الكتائب ومحاولات التسلط والاستفراد بالبلدة، وطوال هذه المدة، منذ البداية إلى الآن، لم تنج دوما يوماً من القصف. ظلت تقصف من الطائرات، وترسل إليها الصواريخ القاتلة من قمة جبل قاسيون، وتم إطباق الحصار عليها، فتك الجوع والمرض بأهليها، ومورس عليهم كل ما يخطر في البال من صنوف القهر، واستثمر الحصار أمراءُ الحرب داخلها، وفرضوا على المدنيين فيها توجهاتهم ورؤاهم بقوة السلاح. حرم أطفالها من حياتهم، وحرم من بقي منهم من طفولتهم، ومن بقي من شبابها الثائر المدني حياً نجا بحياته من الموت والاعتقال، إذ كان يكفي أن يكون الشاب (دومانياً) كي يكون مطارداً وملاحقاً ومعتقلاً حتى الموت. تلك هي دوما، وتلك كانت ثورتها، نبيلة وفاتنة وجريئة وجاذبة، وذات جمال يصيب بالعدوى، كان على هذا الجمال أن يبتر، أن يظهر ما هو ضده. الرايات السوداء التي ارتفعت. الكتائب التكفيرية التي تشكلت وتسلحت. أمراء الحرب الذين ظهروا بجيوشهم فيها. حصارها الطويل وقصفها اليومي والفتك بكل مواطن الجمال والحياة فيها. عوقبت دوما على فرادتها في بداية الثورة، وعلى جمالها الطويل، وتُعاقب اليوم بمحاولات متواصلة لتدميرها، وقتل وتهجير من بقي من أهلها، بإلقاء حمم الموت عليها، على أن صرخة امرأة دومانية من قلب الدمار، أول من أمس، وهي تقول (ماعاش يلي بدو يمحي دوما من الوجود) تكفي، وحدها، للرد على المبشرين بالموت والخراب، سراً وعلناً. إنه العنب الدوماني الذي يثمر ويقطر حلاوة، على الرغم من عطشه الشديد.

 العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى