مقالات

رضوان السيد – الحروب المقدسة للآخرين على الأرض العربية

صرفت أنظارنا وأنظار الاستراتيجيين التنظيمات الراديكالية القاتلة العاملة على الأرض عندنا وعلى مدى العالم٬ عن الراديكالية الأخرى التي تسرح وتمرح في فلسطين.

 

وقد كان يقال في دراسات النصف الأول من القرن العشرين إّن الديانات الصغيرة هي أكثر قابليًة لظهور الفكر العنيف فيها٬ لأنها أسرع إحساًسا بالظلم والاضطهاد. وبخاصة إذا كانت هناك شواهد على ذلك كما هو الأمر في حالة اليهود في أوروبا.

ويضاف إلى ذلك «طبيعة الدين»٬ ومدى وجود عنصر القانون الإلهي أو الشريعة والتي ينبغي تطبيقها لكي تظَّل الشرعية الدينية للجماعة مؤَّمنًة أو حاضرة. والقضية في تلك الشرعية عند اليهود أنها مرتبطٌة ارتباًطا وثيًقا بالتاريخ وبالمكان. وكلاهما ينبغي أن يتجَّسد أو يتجمد بقعًة وزماًنا. ولذلك ما أمكن تجاُوُز هذه العقيدة إلاّ بتأويلياٍت ضخمٍة مثل التأويلية المسيحية؛ في حين وقعت فيها حتى الآيديولوجيا القومية (العلمانية) مثل الصهيونية.

ولأّن «التحقق» المكاني والزماني لا يمكن أن يكتمل أو يتجسد على النحو النّصي المتواَرث؛ فإّن النزعة العنيفة تسيطر على أولئك الذين يريدون إنجاز الاكتمال٬ وهو هنا استعادة «الهيكل»٬ وكل الأماكن المقدسة الأخرى التي انبنت في الخيال وتحولت إلى ذاكرة وعقيدة ثابتة عبر أكثر من ألفي عام.

إّن المراد استعادة جغرافيا العهد القديم بحذافيرها٬ وهي جغرافيا غير تاريخية٬ فكيف إذا صار التاريخ الموهوم اعتقاًدا؟ هناك ثوراٌن في الدين اليهودي٬ هدفه الاستيلاء على الجغرافيا المقدسة الموجودة في العهد القديم. ويدعمه في ذلك جيش دولة إسرائيل٬ والدولة الصهيونية ذاتها٬ التي سيطر الاستعماريون الاستيطانيون من جهة٬ والأصوليون العنيفون من جهٍة ثانية٬ على اعتقادها وهويتها وإدارتها إلى حٍد بعيٍد! لقد أعلنت الحركات الراديكالية اليهودية حرًبا مقدسًة للاستيلاء على أرض فلسطين٬ والتي حَّل محلَّها فيها في نظر تلك الحركات بشٌر مغتصبون للأرض والدين من المسيحيين والمسلمين.

وُيغري بهذا التحقُق الآن بالذات قوة الدولة الإسرائيلية٬ التباشير الموجودة في الدثائر اليهودية عن إعادة بناء الهيكل قبل نهاية الزمان؛ بل إّن ذلك البناء وتلك الدولة٬ شرطان للقيامة ذاِتها! وبعكس اليهودية التي استقر في وعيها العميق افتقاد الأرض المقدسة والدولة٬ اللتين صارتا هما الاعتقاد ذاته٬ لا يمكن قول ذلك عن المسيحية٬ التي تأسست على اليهودية٬ لكنها اجترحت تأويلاٍت هائلة٬ أخرجت القداسة من المكان وحتى الزمان٬ وربطت ذلك كلَّه بالإنسان الذي يستطيع مباشرًة أو عبر الكنيسة تحقيق خلاصه كل يوم. ومع ذلك٬ فإّن المسيحية شهدت قيام الإمبراطوريات المقدسة التي تريد تحقيق مملكة المسيح على الأرض. وقد تجلَّى ذلك في الدولة البيزنطية (الأرثوذكسية)٬ التي دعا باباواتها لاستعادة قبر المسيح في القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد في الحروب الصليبية.

وقد انفك هذا الارتباط بين الدين والإمبراطورية منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر. لكّن الكنائس والمبشرين ظلّت لهم أفكارهم واستراتيجياتهم للشرق٬ وليس لدى الكاثوليك والبروتستانت وحسب٬ بل ولدى الأرثوذكس الروس٬ حيث اختلط الدين بالهوية القومية السلافية من جهة٬ وبالإمبراطورية من جهة ثانية.

وقد انقمعت الديانات من الهوية في الزمن الشيوعي لكنها لم تُزل٬ وها هي تعود بعد سقوط الإمبراطورية٬ لتجد أّن الإسلام لم يحَّل محَّل بيزنطة والأرثوذكسية في الشرق فقط؛ بل هو يصارعها في روسيا نفِسها. وهكذا فإّن إعلان الكنيسة الروسية لهجمة بوتين على سوريا باعتبارها حرًبا مقدسة٬ ليست نفاًقا للسلطة الإمبراطورية الجديدة فقط؛ بل لها دوٌر في الذاكرة والوعي٬ وتتضمن طموًحا لبسط الهيمنة تحت اسم حماية المسيحيات والأقليات الأخرى. وهذه الأمور كلّها سمعناها من رجالات الكنيسة الروسية في زياراتهم للبنان وسوريا في السنوات الأخيرة. ولنذهب إلى الحرب المقدسة الثالثة٬ التي يقوم بها الإيرانيون ومن استمالوهم من شيعة العالم العربي٬ في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين والكويت.

وهي حروب طموحات سلطوية لملء ما يعتبرونه فراًغا بالقوة؛ فإّن لم تستطع فإنهاُتخِّرُب المجتمعات والدول باعتبار أّن هؤلاء من أعداء أهل البيت؛ وهنا يدخل العامل الديني والمذهبي الذيُيعّذي به الإيرانيون عقول العامة من أهل التحشيد والتجنيد. لقد أجل التشيع الإمامي مسألة الصراع على السلطة إلى زمن حضور المهدي الغائب. وأدخل الصفويون مسألة دولة التمهيد لظهور المهدي٬ وهي التي عادت فانتصرت في ولاية الفقيه. بيد أن البلاد العربية لا يمكن أن تقوم فيها دولة التمهيد٬ لأنها ليست شيعية٬ ومعظم الشيعة العرب لا يقولون بولاية الفقيه. ولذلك اتخذ «الجهاد»٬ واتخذت «الحرب المقدسة» على العرب والمسلمين الُسّنة ذرائع أخرى. سَّمى السيد حسن نصر الله السوريين «تكفيريين»٬ وقال إنه ذاهٌب لقتالهم لأنهم يهّددون مقامات أهل البيت ومزاراتهم.

وليس في المناطق التي غزاها في القصير والقلمون والزبداني مزارات لآل البيت. إنما لا بأس٬ دْعَك من المزارات٬ هؤلاء الناس يكّفرون الشيعة٬ ولذلك ينبغي قتلهم أو تهجيرهم٬ وإحلال شيعة في ديارهم كما حاولوا ويحاولون في القلمون والزبداني والسيدة زينب وأحياء دمشق الداخلية وحمص وحلب٬ وفي سائر الديار العراقية! ولنختم بالحرب الرابعة: حرب «داعش» والراديكاليات السنية المشابهة. هؤلاء يقولون «ظاهًرا» إنهم إنما قاموا أو ثاروا للرد على تلك الحروب على أهل السنة. لكنهم ما ضربوا ضربًة في فلسطين. وما قتلوا ولا ضربوا في سوريا والعراق إيرانًيا ولا شيعًيا٬ وما استولوا على غير مناطق أهل السنة٬ ومعظم ضحايا مجازرهم من العرب السنة (!).

وهكذا فإّن حربهم المقدسة هي الأخطر علينا٬ لأن الأخ يقتل أخاه أو ابن عمه أو أُخته٬ وينشر صورًة بشعًة عن الإسلام كّل الإسلام. وهو أفَعل من الإيرانيين في شرذمة مجتمعاتنا ودولنا٬ ولا يضارعهم في ذلك غير بشار الأسد! إنهم انشقاٌق في الدين٬ والانشقاق يتجه لإبادة أصله٬ باعتباره هو الدين الصحيح٬ وليس الكثرة التي خرج عليها! سَّمى جيل كيبيل أحد كتبه: «حروٌب في ديار المسلمين»! وهي بالفعل حروٌب (مقدسٌة) على العرب٬ والعرب وحدهم. حيًنا من أبنائهم٬ وأحياًنا من جوارهم ومن العالم. فيا للعرب!

المصدر : الشرق الأوسط 

زر الذهاب إلى الأعلى