تسنى لي في شتاء عام 2012 زيارة قطاع غزة، حين لاحت في زمن حكم محمد مرسي لمصر فرص العبور إلى تلك البقعة الفلسطينية المحاصرة، لاسيما للاجئ فلسطيني سوري، كان يرى الوصول إليها حلماً صعب المنال. هناك، تملكتني رغبة عارمة لأتعرف إلى تفاصيل المكان، وكيف يعيش هذا الجزء من الشعب الفلسطيني بين أشكال قهرية مركبة.
كان أساسياً بالنسبة لي معرفة مدى تطابق غزة الواقع، مع صورتها المتخيّلة في ذهني، لكن الحلم والوجع السوري اللذين يسكنان فلسطينيتي السورية لم يفارقاني، على الرغم من سطوة الحضور الفلسطيني، بكينونته الغزية الرابضة على إيقاع المجهول. ولذلك، كان تأملي في مواقف الغزيين من الثورة السورية، ومدى تفاعلهم مع محنة فلسطينيي سورية، يطغى على لذة اكتشافي امتدادي الفلسطيني هناك، لاسيما بعد أن اتضح لي أن لا أجوبة شافية بين أسوار الوطن المثقل بالهموم، على أسئلة الهوية القلقة في زمن نكبتنا الثانية.
كانت مواقف بعض المثقفين الذين التقيتهم من الثورة تحاكي رواية النظام عن المؤامرة الكونية، ودور الربيع العربي في تمرير أهدافها المضمرة، على الرغم من أن أكثرهم قضى قسطاً من حياته في سورية، ولديهم تجارب فصائلية، خبروا في أثنائها دور الأسد الأب في ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، ومحاولاته الدؤوبة لتطويعها واحتوائها.
مع ذلك، لم يخفِ أكثرهم معرفة بطبيعة النظام، الأرضية الإيديولوجية التي ينطلق منها، في موقفه الرافض ثورات يسيطر عليها الإسلاميون، بل كان لدى الأوساط الاجتماعية الغزية، من ذوي الخلفيات الفتحاوية واليسارية والليبرالية المحافظة، منذ ذاك الوقت، وحتى قبل انتشار قوى التطرف الإسلامي في سورية، تحفظ ممزوج بالريبة من ثوراتٍ يرون في الطابع الإسلامي الغالب عليها نذير شؤم على الفلسطينيين والعرب معاً، مدفوعين بذلك من وحي معايشتهم اليومية تجربة الحكم الحمساوي في غزة.
في المقابل، كانت دوافع جمهور حماس في مساندة الثورة السورية، تقوم على نصرة أهل الشام واجباً دينياً تجاه المسلمين السوريين، مع هامش براغماتي تغطيه الحركة بخطاب سياسي محايد، لكي تخفف بين الفينة والأخرى، من ضريبة مواقفها الإخوانية المؤيدة للثورة. كانت تلك المواقف المتباينة تعكس سطوة الإيديولوجيا من جهة، والاعتبارات السياسية من جهة أخرى. لكن حالة التذمر والإحباط بين أوساط الشباب، من واقع يقف حائلاً أمام توقهم إلى كسر القيود السياسية والاجتماعية، كان الحقيقة الأوضح، فيما لم يحجب ذلك كله تعاطف المزاج الشعبي في غزة، مع مأساة السوريين بمنأى عن الخوض في مسبباتها، لكي لا تتحول إلى عنصر إضافي، في تعميق الانقسام الداخلي وأحقاده المتبادلة.
في تلك الفترة، وقع الحدث الجلل في مخيم اليرموك، حين غادر أكثرية سكانه هرباً من قصف طائرات الأسد التي ارتكبت مجزرة مروعة، طالت عدة أحياء في المخيم. كان مشهد النزوح الجماعي، صبيحة 17/ 12/ 2012 ذروة الفجيعة التي ألمت بالتجمع الفلسطيني الأكبر في سورية، وكنت، وغيري كثيرون، نتصوّر أن جريمة تشريد سكان اليرموك ستلهب مشاعر التضامن الحار من الكُل الفلسطيني في كل أماكن وجوده، بيد أن ردود الفعل الباردة كانت أقرب للتبرؤ من سياسات الحياد التي توارت خلفها نخبة سياسية وثقافية واسعة، تبدّى انحطاطها الأخلاقي في صمتها المشين ومواربتها الفاضحة، واكتمل “النقل بالزعرور”، مع خروج أصوات من منظمة التحرير الفلسطينية، ترشّ مواقفها المؤيدة للنظام الملح على جراح شعبها، وهو ما أثار مشاعر طافحة بالتنكر والخذلان، بحق من كانوا ينتفضون بكل جوارحهم، حال كل عدوان أو مجزرة إسرائيلية، تطاول إخوتهم في الداخل الفلسطيني.
في خضم سطوة المفارقات بين روابط الوطنية الفلسطينية، كما تشكلت في تصوراتنا المثالية، وحقائقها المبتورة، كما استفاق عليها فلسطينيو سورية، ثمة صدمة فكرية وأخلاقية، تضاهي صدمة الارتطام بقاع الهاوية، نجمت عنها تصدّعات في مكانة الضحية التي ما عاد ضمير “يا وحدنا الفلسطيني”، يرد لها قدراً من كرامتها الوطنية، فكيف وقد أمسى عليه حال “يا وحدنا الفلسطينية السورية” في زمن حصار أهلنا وتجويعهم، على يد فصائل التشبيح باسم “المقاومة المأجورة”، ومن شاركوا بصمتهم اللعين في مضاعفة أوجاع الضحية، بل ومن أدانوا الضحية بذريعة تدخلها في شؤون غير فلسطينية. تلك الخيبات المفاجئة وصفعاتها المدوية، طرحت على فلسطينيي سورية للمرة الأولى، سؤال الهوية العارية: من نحن؟ ومن هم؟ في ثنائية السؤال وطأة مصير عالق، بين هويات مبعثرة لكلٍ منها همومها وتناقضاتها الصارخة.
قبل الانتكاسات المتتالية، في مسيرة الربيع العربي، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، لم يكن سؤال الثورة السورية إلى أين حاضراً بإلحاح كما هو الآن، ولم تكن مأساتنا السورية قد فاضت حدود التحمل كما هي عليه اليوم، أما نكبتنا الفلسطينية الثانية فقد توالت فصولها، وبات استنزاف الوجود الفلسطيني في سورية بالهجرة الاضطرارية حقيقة يومية صامتة.
الغريب حقاً أن كشوفات الثورة السورية في حقبتها الراهنة، وجبل الأكاذيب والنفاق الذي يتهاوى، أمام فضائح المتآمرين الكثيرين عليها، لم يغيّر ذلك كله من تسييس ثقافة التضامن مع الضحية، حتى لدى جمهور من الفلسطينيين، أقدم الضحايا في المنطقة، وأكثرهم ابتعاداً عن التجاذبات الطائفية والمذهبية. لا يشذ عن ذلك كثيراً حال جمهور واسع في مجتمعاتنا العربية ونخبها المثقفة، لا يزال يشيح النظر عن فظائع الاستبداد، والمأساة السورية شاهدها الأكبر، ومن دون أن تُحدث تلك الفظائع تغييرات عميقة في بنية العقل العربي، الواقعة بين عبودية الأنظمة وإرث دولها العميقة، وبين أعباء الفوات التاريخي المزمن.
بل إن الانتفاضات والثورات العربية بقدر ما فتحت آفاق واعدة للتغيير، غير أنها لا تزال تحمل الكثير من رواسب تلك البنية وأمراضها، لاسيما قصورها عن تجسيد سياقات الترابط التحرري بين الشعوب العربية، وإخفاقها في ترجمة شعارات الحرية والكرامة التي نادت بها، وما العودة السريعة إلى الثورات المضادة إلا انعكاس للمأزق التاريخي الذي يواجه أطروحة التغيير، وتحدياتها الكبرى في مرحلتي الثورة وبناء الدولة الوطنية. الضريبة الفادحة التي يدفعها السوريون، ومن في حكمهم، ثمناً للخلاص والتحرر من الاستبداد بكل أشكاله، لم تدفع مؤسسات الثورة والمعارضة، بعد كل هذا الالتباس والتشوه في نظرة الشعوب العربية، للثورة السورية وأوجاع ضحاياها، اعتماد رؤية سياسية وإعلامية وثقافية، تكسر من خلالها خطاب الأنظمة والأحزاب والمستحاثات العربية المناهضة للتغيير، وتساهم في تفنيد رواية التنكر والحياد والصمت التي تجتاح الضمير العربي في أيلولته الموحشة.
ذلك أن الاستسلام لواقع الثورة اليتيمة، وضحاياها الأيتام، والتقاعس عن تأكيد جدليات التحرر العربي، يعني انتصار منطق احتجاز الشعوب العربية في مربعات همومها ومخاوفها وانشغالاتها المحلية. بمعنى أدق، تجفيف الثورات ضمن حدودها القطرية والطائفية والجهوية الضيقة، وما الكارثة السورية إلا تدجين مرعب للعقل العربي، ووضعه أمام خيارين مغلقين، الاستقرار المتجاور مع الفساد، أو الثورات المقترنة وجوباً بالحروب الأهلية والطائفية. هنا، تكمن أهمية الهبة الشعبية التي اندلعت، أخيراً، في فلسطين، بما تحمله من دلالات الترابط التحرري بين معركة دحر الاحتلال، ومعارك إسقاط الاستبداد، وأنه لا بد أن نغادر “زمن يا وحدنا”، كي لا تبقى ثوراتنا وانتفاضاتنا يتيمة.
المصدر : العربي الجديد