أدت المخرجات التي نتجت من «الانتداب الفرنسي» لسورية، إلى واقع جديد متناقض اجتماعياً وغير عادل جغرافياً، حمل في طيَّاته كوامن قابلة للانفجار دوماً عند أي أزمة كبرى. ووقف الرجالات الوطنيون في الكيان الجمهوري الوليد أمام موقف عصيب، إذْ كيف يقبلون بدولة ذات واقع جيوسياسي لطالما حاربوا، رفضاً منهم، الصيغة التي رُسمت به في التفاهمات البريطانية – الفرنسية. وعلى رغم أن تغيير ما قد تم التفاهم عليه بين الدول الكبرى كان متعذراً وغير ممكن، بقيت أحلام الوطنيين مصدراً داخلياً لصراع أيديولوجي مرير أدى بالبنية الضعيفة إلى الانقلابات المتتالية والاستبداد النهائي الذي أوصل السلطان الأسدي إلى سدّة الحكم.
لقد هيمنت صراعات دولية وداخلية عشية تأسيس الكيان الجمهوري، أدت مجتمعة إلى نشوء كيان مضطرب ومنقسم، ولا يملك في بنيته أي مقوّم للصمود أو الاستقرار. فالصراع الأساسي الذي وسَمَ زمن التأسيس كان على نوعين، أولهما صراع بين الفرنسيين والبريطانيين وخلاف كبير على اقتسام التركة العثمانية، والثاني، صراع داخلي بين سلطة الانتداب الفرنسي ورجالات الحركة الوطنية الذين كانوا يمنّون أنفسهم بواقع جيوسياسي يمنحهم قدراً أكبر من السيطرة والنفوذ في الإقليم.
ثم انشغل الوطنيون في الجمهورية السورية بعد إعلان الاستقلال عن الحكم الفرنسي عام ١٩٤٦، بتجاذبات كان عنوانها العريض أن الواقع الجيوسياسي الجديد لا يمكنه الصمود وحيداً، وأنه لا بد له من حالة وحدوية ما. وأصبح هذا «الوهم الكبير» سبباً لصداع كبير في تاريخ تلك الحقبة، مؤدّياً إلى تغييب التداولات السياسية والاجتماعية والثقافية بين المكونات الوطنية، التي كان عليها أن تتفهم الواقع الجديد وتحاول بناء الهوية السورية الوطنية المستقلة تبعاً له، بعيداً من الهويات الجامعة غير الممكنة.
ففي الأيام الأولى للاستقلال عن فرنسا، وقع رجالات الحركة الوطنية في مأزق عصيّ، ألا وهو كيف في إمكانهم القَسَم القانوني والسياسي على صيانة الكيان الجمهوري الذي نشأ على الصيغة التي لم يكونوا يوماً ليقبلوا بها، والذي كانت برامجهم السياسية قائمة على رفضه.
كانت البرامج السياسية والشعارات الانتخابية التي روّجتها الأحزاب السياسية حينها، تختلف في الصيغة التي يجب إعادة بناء الكيان الجمهوري أو تكييفه عليها. وكانت كلها تُمني المواطن السوري بنوعٍ ما من الوحدة العربية. فقد دفع أعضاء حزب الشعب كثيراً باتجاه تأسيس مشروع «الهلال الخصيب»، وتوجه الحزب القومي السوري نحو تأسيس سورية الطبيعية، وبنى حزب البعث مشروعه السياسي على تحقيق الوحدة العربية، ومال الحزب الوطني إلى التقارب مع محور السعودية – مصر لمنع أي نوع من أنواع الوحدة العربية التي قد تؤثر في التوازنات في العالم العربي، كما ظهرت شعارات تدعو إلى بناء المملكة الهاشمية الكبرى، وأسس أيضاً أديب الشيشكلي حزباً سياسياً أسماه «حركة التحرر العربي» كان مشاكساً للقومية السورية وسورية الكبرى ودعوات الانضواء تحت التاج الملكي الهاشمي، ونادى بالعرب أمَّة واحدة ودولة واحدة.
أنهت حقبة الأسد الأب أي شكل من أشكال النقاش السياسي في الفضاء العام، وشرَّعت حالة من «الصمت السياسي» على مستوى جمعي، وانتهَت على إثرها تلك التداولات والتجاذبات حول الهويَّة الوحدوية.
ومع انطلاق الثورة السورية في آذار (مارس) ٢٠١١، يبدو أن الزمن عاد إلى ما قبل الأسد، وعادت تلك التجاذبات لكن في شكل آخر. فعلى رغم أنَّ اللاعبين الإقليميين تغيَّروا، وأنَّ رجالات العمل السياسي المعارِض أيضاً تغيَّرت مشاريعهم وخلفياتهم السياسية، بقيَ ذلك «الوهم الكبير» كامناً كما هو، ولم يظهر نقاش كبير حول الهويَّة الوطنية السورية، كما بقيت مسلّمة «لا بدَّ لسورية من محورٍ إقليمي تنتمي إليه» حاضرة في المشهد، زاد من حضورها حرص اللاعبين الإقليميين على تجذّرها في «العقل السياسي السوري».
وكان من الواجب الوطني أن تقوم النخب الثقافية ورجال العمل السياسي بتجذير الشعارات الوطنية التي رفعها الشبان السوريون في ساحات الثورة، ومحاولة صقلها على شكل نُظم وأدبيات تمثل رغبتهم في «سورنة» المشاريع المطروحة للهوية الوطنية والدفاع عن حقوق سورية ومصلحتها أولاً، بعد غيابها في عهدين: عهد من الغياب عن التداول قبل الأسد وعهد من الغياب عن الوجود بعده.
لكنَّ أصوات الثورة تناغمت مع الأصوات الإقليمية المتنافسة في ما بينها، وأعادت تجسيد التناقض ذاته الذي أصاب التطوّر الوطني قبل حقبة البعث. فمسلَّمة الحاجة إلى محور جامع، أو «قَدَريَّة» الانضواء تحت هيمنة جامعة، تحولت إلى أداة تسليم واستسلام بل ارتياح، لأنَّه ظُنَّ في شكل ما أنَّ تكلفة بناء هُويَّة وطنيّة مستقلة أكبر كثيراً من تكلفة الانضواء تحت محور يمنح الكيان نوعاً من الاستقرار والهوية السياسيَّة.
لكنَّ هذه الظنون انكشفَت أمام ذاتها مع ظهور التخوف من أنَّ غياب الهُويَّة الوطنية الجامعة للسوريين، أحد أهم الأسباب الكامنة التي قد تُؤدِّي إلى تقسيم الجغرافيا السورية وتفتيتها إلى وحدات أصغر، إضافة إلى الاقتناع بأنَّ النظام الدولي لن يسمح بوجود محور إقليمي واحد يهيمن على الحالة السورية.
وهكذا تحوَّل ما أُغفل من مهمة البحث الهويَّاتي، إلى كابوسٍ من الهويَّات المتناثرة سرعان ما ستتحول إلى انقسامات جيوسياسية وثقافية وعدائية نرى آثارها في الانقسام الشديد بين السوريين. ولأنَّ سورية تملك كلَّ مقومات التفوّق، فليس فقط أعداء السوريين من لا يرغبون في وجود هويّة وطنية جامعة للسوريين تضع سورية على رأس أوَّليات السوري. ذاك أنّ الحلفاء الأصدقاء أيضاً الذين يركب في ركابهم كثير من رجالات العمل السياسي لا يميلون كثيراً إلى وجود سورية متفوِّقة، علماً أن وجود الهوية يمنح الثورة زخماً ويحصّنها من التفتت والاختراقات، كما أن وجودها والاعتزاز بها يُضفيان على الشخصية السورية استقلالاً واحتراماً بين الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء والخصوم.
المصدر : الحياة