شكلت الحكومة التركية الخامسة والستون بقيادة بن علي يلدرم، الرئيس الجديد للعدالة والتنمية، ونالت ثقة البرلمان، وبدأت ممارسة عملها بانسيابية، وكأن شيئا لم يحصل في البلاد قبل أسابيع. سهولة ويسر لا يحجبان الأسئلة العريضة حول الملفات ذات الأولوية في ظل التحديات التي تواجه تركيا داخليا وخارجيا من جهة، ولا فيما يتعلق بمصير داود أوغلو نفسه ومصير التجربة التركية من بعده من جهة أخرى.
في الجزئية الثانية، موضع المقال، يدرك كل متابع جيد للتجربة التركية أن الرجل لم يكن شخصا عاديا فيها. صحيح أنه لم يكن من مجموعة المؤسسين الكبار، وأنه نال عضوية الحزب بعد سنوات طويلة من تأسيسه، لكن هذا لا يتناقض مع كونه ركنا رئيسا من أركان التجربة والمنظــِّر الرئيس لها وعقلها المفكر، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فمهندس السياسة الخارجية التركية، اللقب الذي استحقه بجدارة، لم يكتف بالتنظير والتأليف والتوجيه، بل خاض غمار العمل السياسي وتدرج فيه بسرعة الصاروخ من مستشار لرئيس الوزراء إلى مستشار في وزارة الخارجية برتبة سفير إلى وزير للخارجية إلى رئيس للوزراء، كل ذلك في أقل من عشر سنين.
هذا الارتقاء السريع في المناصب تبعه خروج سريع أيضا من سدة القيادة في كل من الحزب الحاكم والحكومة، لأسباب وسياقات تناولناها في مقالات سابقة، بيد أن السؤال اليوم هو: هل انتهت “ظاهرة” داود أوغلو كأي مفكر احتك بالسياسي؟ وهل ستبقى تركيا ما بعد داود أوغلو كما كانت معه؟
والحقيقة أننا يجب أن نمايز هنا -أو بالأحرى أن نجمع- في التحليل بين داود أوغلو الشخص وداود أوغلو الفكرة/السياسة/الاستراتيجية، ويبدو لي أن الاثنين باقيان على المديين القريب والمتوسط في تركيا وحزب العدالة والتنمية، ولي بين يدي هذه القناعة بعض المؤشرات والقرائن والتحليلات.
فعلى مستوى الفكرة أو التنظير، لا يمكن توقع ارتداد تركيا العدالة والتنمية عن نظريات الرجل وأفكاره بمجرد خروجه من المشهد القيادي، لا على مستوى الاستراتيجية، ولا على مستوى السياسة الخارجية، لأسباب عدة أهمها:
أولا، لا يملك العدالة والتنمية ولا تملك تركيا أيضا في الوقت الراهن رجلا بحجم “الأستاذ” ولا نظريات بديلة عما قدمه الرجل وصاغه ومارسه. فهذه الطينة من المفكرين الكبار نادرة الظهور ولا تتكرر كثيرا، وغياب البديل يعني استمرار التأثير بطريقة أو بأخرى.
ثانيا، صحيح أن النسق النظري الذي قاد العدالة والتنمية من أفكار الرجل وصياغاته، لكن ذلك لم يكن منبتا أبدا عن قناعات وفكر مؤسسي العدالة والتنمية، فما جعل نظرياته حاكمة على التجربة ورائدة لها هو تناغمها مع الأفكار المؤسِّسة، وبالتالي فلا يعقل أن تتراجع التجربة عن استراتيجيات اقتنعت بها لمجرد الافتراق مع صاحبها.
ثالثا، أن تغيير الوجهة الاستراتيجية للبلاد – بافتراض وجود هذه الرغبة – أو تعديل أرضيتها الفكرية لا يكون بين يوم وليلة، فتركيا لم تبن استراتيجياتها وسياساتها اعتباطا ولكن على أرضية صلبة من حقائق الجيوبوليتيك وخصائص الهوية ومتطلبات الأمن القومي وأبعاد الدور الإقليمي والدولي وتشابك العلاقات الخارجية. فكما لم يستطع العدالة والتنمية تغيير الكثير من الاستراتيجيات الثابتة في تركيا وسياستها وارتباطاتها الخارجية – بفرض أنه أراد ذلك – فلا نتوقع قدرته على فعل العكس في وقت قليل أيضا.
رابعا، لم يكن الخلاف بين أردوغان وداود أوغلو حول الاستراتيجيات والأفكار والرؤى العريضة، بل على أسلوب القيادة والإدارة وآلية اتخاذ القرار ومرجعيته.
خامسا، لا ترى القيادة التركية – بمختلف مستوياتها – أن تراجع دور تركيا وجمود سياستها الخارجية ناتجان عن قصور في نظريات “الخوجا” بل عن متغيرات جوهرية في ديناميات المنطقة وتوازناتها وتحالفاتها وتطورات أحداثها، وهي رؤية أقرب إلى إنصاف الرجل وإلى واقعية التحليل برأينا وسابقة على تخلي الرجل عن رئاسة الحكومة.
وأما على مستوى الشخص، فلا يبدو أن الرجل قد غاب عن المشهد تماما، وبتعبير أدق لا يبدو كمن يريد مغادرة المشهد بلا عودة، وعلى هذا مؤشرات عدة، أهمها:
أولا، أعلن داود أوغلو منذ اللحظة الأولى أن تنازله عن منصب رئيس الحزب ورئيس الحكومة لا يعني تخليه عن مبادئ الحزب وأفكاره، وأنه سيبقى وفيا لقضيته و”دعواه” بغض النظر عن المنصب والدور، وبالتالي فخروجه من المستوى القيادي للحزب ليس افتراقا ناجزا ونهائيا عن الحزب لا من زاوية المبادئ والسياسات ولا من زاوية الأشخاص والأسماء.
ثانيا، عمليا ما زال الرجل نائبا في البرلمان التركي عن محافظة قونية، وقد كان حريصا على التواجد تحت قبة البرلمان كنائب عادي خلال التصويت على إعطاء الحكومة الثقة وخلال مداولات أخرى.
ثالثا، حرص داود أوغلو على التواجد في المؤتمر الاستثنائي للحزب، وقدم كلمة قوية وثقت سجله أمام كوادر الحزب والرأي العام التركي، كرجل دولة قوي وصاحب مبادئ أدار الخلاف بنضج وحكمة وقدم مصلحة بلاده على حظ نفسه.
رابعا، حرص الرجل في كلمته على تثبيت فكرة نجاحه وعدم فشله خلال عشرين شهرا رئس خلالها الحزب والحكومة رغم تزاحم التحديات الداخلية والخارجية فيها، مستدلا بالمؤشرات الاقتصادية واستطلاعات الرأي وقناعة كوادر الحزب (عبر تصفيقهم تأييدا لكلامه).
خامسا، قدم الرجل في كلمته معنى ثالثا يضاف إلى النضج والنجاح وهو “المظلومية” حين أكد أكثر من مرة على أنه ذهب لهذا القرار مضطرا وأنه “لم يكن قراره الشخصي”، بل جنح إلى أبعد من ذلك أي العزف على وتر عاطفة الحاضرين حين قال “وأعلم أنكم منزعجون أنتم أيضا من ذلك”. يدرك الرجل بطبيعة الحال أهمية معنى “المظلومية” في مخيال الشعب التركي، ولعل أحد أهم أدلتها الرئيس أردوغان نفسه الذي جعل منه السجن بطلا في أعين الشعب حين أضيف لسجل إنجازاته في رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
سادسا، بعد استبعاد كل من عبدالله غل وبولند أرينتش وعلي باباجان من منظومة صنع القرار في الحزب والحكومة وفي سياقات لا توحي بعودتهم القريبة لها، يبقى داود أوغلو أحد أهم بدائل مرحلة ما بعد أردوغان.
في المحصلة، تشهد السياسة الخارجية التركية وستشهد بعض المتغيرات على ثلاثة مستويات: بناء شراكات جديدة، وتدوير زوايا الخلاف القائمة، وإضافة بعض “الخشونة” على “القوة الناعمة” لأنقرة. بيد أنها تعديلات في الأسلوب والتفاصيل لا في الاستراتيجية والجوهر، ولا بسبب غياب داود أوغلو.
أخيرا، لقد أثبت الرجل تميزه وإمكاناته كأكاديمي أولا ثم كسياسي ثانيا، وهو اليوم سيدخل مرحلة من الهدوء والتفكر والمراجعات السياسية – الفكرية على المستوى النظري، والتي ستضيف له عمقا أكاديميا كبيرا ممزوجا بالخبرة العملية التي اكتسبها في أرفع المناصب. وهذا يعني أمرين مهمين: توقع كتابات مستقبلية أعمق وأكثر تأثيرا في رسم الاستراتيجيات المرتبطة بمشروع “تركيا القوية” أو “تركيا الكبيرة” أو “الجمهورية الثانية” في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية عام 2023، وأن المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية لم يسدل بالضرورة ستارة النهاية على مسيرة الرجل السياسية بل ربما يكون مجرد فصل أضيف لرصيده كمحترف جاهز للعودة للمسرح حين تحين الظروف أو تتولد الحاجة له.
المصدر : عربي 21