ما يجري في سورية والعراق مزيج وخليط من حروبٍ أهلية وإقليمية وعالمية، تقبع، في طياتها، أهداف سلطوية عشائرية وقبلية، طائفية ومذهبية، إثنية وعرقية، كلها تسعى إلى تفكيك وفرط دولتين “وطنيتين” من أكبر الدول التي تأسست بموجب اتفاق سايكس – بيكو قبل قرن. حروب تعادل، في قواها وتعدّد أطرافها الداخلية والإقليمية والدولية، ما كانته الحربان العالميتان الأولى والثانية؛ من دون أن تخضع لشروط الحرب بتجاربها وخبراتها السابقة، فالحرب الراهنة المفوّتة في ماضويتها، والحديثة في شرطها الراهن، سيكون لها خبراؤها الذين سيضفون عليها هالاتٍ من الهزيمة وأخرى من الانتصار، في ظل تقييماتٍ متعاكسةٍ ومتضادّة، لها انحيازاتها وتحيزاتها وتفضيلاتها وتفاصيلها المتغايرة بين هذا الطرف أو ذاك.
وفي العموم، ليست حرب السلطة (في سورية أو العراق) واحدة، كذلك حرب المعارضات أو حروبها، ليست من جنسٍ واحد، ولا حروب من يسمون “مجاهدين” من منطلقاتٍ أو لأهدافٍ واحدة، ولا حروب الطائفيين والمذهبيين واحدة، بقدر ما جرى ويجري توظيفها لمصلحة مشروعٍ إقليميٍّ، بطموحات قوموية فارسية، مطعمةٍ بنكهةٍ مذهبيةٍ باتت أكثر انكشافاً وتوظيفاً استعمالياً وزبائنياً، يرى في احتفاظ آل الأسد بالسلطة في سورية، واحتفاظ قوى “الغلبة المذهبية” في العراق ولبنان، عماد هذا المشروع في المنطقة.
على الصعيد الدولي، هناك بلبلة واسعة، ومروحة أوسع من الأهداف الصارخة في تعارضها حيناً، والمتفقة في أحايين أخرى، وكلها تبحث عن مصالح متباينة، في ظل تحالفاتٍ هجينةٍ ومتخالفة، بين ما يجري فوق السطح وما تحته، إلى حد تقريب مصالح مشتركة وتبعيدها في ظل تنافس وديٍّ أحياناً، وتضاد حاد أحياناً، لولا الخطر الداعشي الداهم على مصالح كل الأفرقاء، على الرغم من التوظيف الذي لم يعد خافياً من بعض هؤلاء، والإفادة من خطر داعش ومواصلة العلاقة مع أشخاصٍ في التنظيم، في ما يتعلق بالنفط وصفقاته، وغيرها من التجارات التي تشهدها أطرافٌ عديدة فيما بينها. ووفقا لمصادر صحف أجنبية (التايمز مثلاً)، فإن قواتٍ خاصة أميركية وبريطانية، انضمت، أخيراً، إلى الجيوش والمليشيات للمشاركة في هجماتٍ متعدّدةٍ ضد تنظيم داعش، إلى درجةٍ أصبحت فيها ساحات القتال مزدحمةً ومدعاةً لعدم الثقة بين الأطراف المشاركة؛ فيما المجال الجوي السوري، كما العراقي، يزدحم بأصنافٍ عدة من طيران الدول المتنافسة.
وكان مصدرٌ فرنسي قد ذكر أن جنوداً فرنسيين يقدّمون النصح في سورية لقوات سورية الديمقراطية الكردية العربية التي تقاتل تنظيم داعش. وقال هذا المصدر لوكالة فرانس برس إن “هجوم منبج كان مدعوماً بشكل واضح من بعض الدول، بينها فرنسا. الدعم هو نفسه بتقديم المشورة”، من دون أن يضيف أي تفاصيل عن عدد الجنود.
إلى جانب هذا كله، يشكل الأمن الإسرائيلي إحدى الأولويات “المقدّسة”، لا عند الإسرائيليين فحسب، بل ويدعمهم في هذا التصوّر، مجموع حلفائهم والمستفيدين من وجودهم الإحلالي في المنطقة. فها هو نتنياهو رئيس الائتلاف الحكومي الإسرائيلي المتطرف يزور موسكو للمرة الرابعة خلال عام، لتمتين الروابط الخاصة التي تربط موسكو بجاليتها الكبرى (الناطقون بالروسية) في فلسطين المحتلة، والتفاهم حول الوضع السوري، بدون تصادم المصالح السياسية والأمنية للنفوذ الروسي المتنامي في المنطقة، وللتفاهم بشأن تنفيذ الطائرات الإسرائيلية غارات على قوافل حزب الله المتجهة من سورية إلى الأراضي اللبنانية، بدون إحراج الروس بعلاقتهم المتشابكة والمتداخلة مع حزب الله والسلطات الإيرانية التي تتلقى أسلحةً ومنظوماتٍ تسليحيةً روسيةً داخل إيران.
في هذا الشأن، وبعيداً عن الدور الروسي القائم على استعادة نفوذٍ يجري تجديدُه بنكهة المصالح النرجسية، كتب إريئيل بولشتاين في “إسرائيل اليوم” (7 /6 /2016) “مرّ نصف يوبيل على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وروسيا، حيث توجد العلاقات اليوم في حالة ازدهار غير مسبوقة”. ويضيف أن السؤال المؤلم حول دفع تقاعد الإسرائيليين الذين تركوا الاتحاد السوفييتي حتى 1992، وجد اليوم حله. إضافة إلى هذا، “هناك نتائج أخرى ظاهرة بشكل أقل للعيان: تصريح علني لموظف روسي حول المنع الكامل لتصدير صواريخ (إسكندر) التي هي جديدة وخطيرة (طلبتها عدة دول عربية). وهذا يوفر مليارات الشواقل على ميزانية الدفاع التي كنا سنوظفها في حال أخذت دول عربية صواريخ كهذه”.
وإلى جانب الرعاية الإيرانية لنظام الأسد، هناك راع رئيسي آخر، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث بات النظام يعتمد اعتماداً رئيساً في بقائه إلى جانب رعاته الروس والإيرانيين، على دعم المليشيات المذهبية من حزب الله إلى التنظيمات العراقية والأفغانية والحرس الثوري الإيراني.
وفي هذا السياق، جاء الاجتماع العسكري الثلاثي الروسي – الإيراني – السوري في طهران في التاسع من يونيو/حزيران الجاري، ليؤشر إلى التمهيد لأجواء تصعيدية، تعكس سمات مرحلة قادمةٍ، لا تقوم على الإقبال على التفاوض، بل على عنفٍ دمويٍّ أشد. ما دفع مستشار وفد المعارضة المفاوض في جنيف، يحيى العريضي، إلى اعتبار أن “نتائج اجتماع طهران مجسّدة على الأرض، قبل أن يعقد، من خلال القصف اليومي الذي يحصد أرواح المدنيين السوريين على امتداد الجغرافيا السورية”، موضحاً أن “سورية بلد محتل من الروس والإيرانيين، ولا سيادة لها”. ويرى أن “وزير الدفاع في نظام الأسد ليس أكثر من شاهد زور في الاجتماع، والذي يُعدّ اجتماعاً تنسيقياً بين قوى احتلال، يشبه الاجتماعات التنسيقية التي يعقدها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو”.
السؤال الذي يبدو أن من المبكر الإجابة عنه، وسط هذه الجلبة والفوضى المدمرة، يكمن في “من سيسيطر على أزمات المنطقة”، المفتوحة على المجهول، والتي فرّخت أكثر مما يجب من أزماتٍ صغرى وكبرى. في ظل هذا التذابح والتقاتل وسيادة فقه التوحش ونشر شرائع الفتنة، وهل يمكن لإيران أن توقف تدخلاتها، وحشر أنفها في بلدانٍ عديدة، قبل أن تحقق أهدافها الفتنوية وطموحاتها الإقليمية؟ وهل يمكن لروسيا أن تتخلى عن مزيدٍ من طموحاتها في استعادة نفوذها الإقليمي، سعياً إلى استعادة ولو بعض نفوذها الدولي الغابر أيام الاتحاد السوفييتي السابق؟
في سورية والعراق تدور اليوم “أم المعارك” التي يمكن أن تتحدّد مصائرها، انطلاقاً من مدن باتت محورية (الرقة والفلوجة والموصل وغيرها)، بحيث يمكنها أن تقرّر مصائر عدة، في البلدين المنكوبين، واللذين تجري على أرضهما حروبٌ أكثر من أن تحصى تداخلاتها وتشابكاتها، ففي سورية تتعاون الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتوابعها المذهبية والمليشياوية، حتى بدت وتبدو المعارك، في الآونة الأخيرة، وكأنها حربٌ عالمية مصغرة، هدفها حماية النظام وإسقاط المعارضات في وحول التقاتل الفئوي والتصفيات على أهدافٍ مبهمةٍ وملتبسةٍ، لم تعد واضحةً لدى أي طرف، المهم الحفاظ على النظام من السقوط، والمعارضة الوطنية من الانتصار، والدواعش وأضرابهم من إحراز نصيبٍ من الهيمنة والنفوذ السياسي والمالي والاقتصادي، بفعل استخراج النفط في بعض المناطق.
أما في العراق، فتبدو الحرب الطائفية بين المليشيات المذهبية، وَضد داعش، حرباً بين أطرافٍ سلطويةٍ مدعومةٍ من إيران، وحرسها الثوري بقيادة قاسم سليماني، الحاكم بأمره في العراق سلطةً ومليشيات، بهدف الحفاظ على السلطة سلطة سيدة بالأمر الإيراني، وشعباً مغلوباً على أمره بكل طوائفه ومذاهبه وأعراقه المختلفة دينياً وقومياً. حتى ضاعت طاسة الإرهاب وتوزعتها رؤوس كثيرة، إن لم نقل جميع المتصارعين على جثة السلطة والدولة التي سقطت صريعة الاحتلال الأميركي، أولاً، وفيما بعد صريعة الاحتلال الإيراني والإرهاب الدولي والإقليمي والمحلي على حد سواء. فمن هو الإرهابي، ومن هو الذي يشنّ حربه ضد الإرهاب؟
هكذا تبدو سرديات الحرب العالمية المصغرة في سورية والعراق، وكأنها حرب مفوّتة، يستهدف عديدون من أطرافها تعويض ما فاتها أيام الحروب الأولى؛ من حروب الفتنة “الإسلاموية” إلى حروب العصر الحديث، الباردة منها والساخنة، إذ يسعى كل طرفٍ إلى الانتقام من غريمه أو غرمائه، والثأر لانكساراته وهزائمه ونكساته، حتى ولو كان الدين والإنسان والدول هي الضحايا، فالسياسة السلطوية وقد غلبت، فهي الأولى والأهم من العقيدة والمبادئ والأفكار والقيم والأخلاقيات الإنسانية المشتركة.
هي حروب الطوائف والمذاهب والفتن الصغرى والكبرى، وحروب الأقاليم والتصارع على النفوذ والهيمنة الاستراتيجية على الأسواق والثروات، في عالمٍ غلبته المصالح السلطوية، الموظفة في خدمة الرأسماليات المتوحشة التي عرفت كيف تستفيد من كل مكامن الضعف والعجز والتواطؤات، الظاهرة منها والخفية، لدى الضعفاء العاجزين عن سكب خبراتهم وتجاربهم في خدمة المصالح الوطنية العليا لشعوبهم.
المصدر : العربي الجديد